مع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، تواجه أوروبا تهديدًا رقميًا غير مسبوق: إمكانية أن تستخدم الولايات المتحدة نفوذها على البنية التحتية للإنترنت وفصل أوروبا عن العالم الرقمي. هذه الثغرة الرقمية الجديدة تُبرز اعتماد القارة العميق على شركات التكنولوجيا الأمريكية، خاصة في مجال الحوسبة السحابية، وتُثير تساؤلات جدية حول سيادة أوروبا الرقمية وقدرتها على مواجهة مثل هذا السيناريو.
الاعتماد المفرط على السحابة الأمريكية
تسيطر ثلاث شركات أمريكية عملاقة هي أمازون، مايكروسوفت، وجوجل على أكثر من ثلثي سوق الحوسبة السحابية في أوروبا. هذه البنية التحتية الحيوية تُشغل كل شيء بدءًا من البريد الإلكتروني ومقاطع الفيديو، مرورًا بمعالجة البيانات الصناعية، وانتهاءً بالاتصالات الحكومية. ولكن، هذا الاعتماد يجعل الوجود الرقمي الأوروبي رهينة لشركات أمريكية ترتبط بشكل وثيق بإدارة ترامب، التي قد تستغل هذه السيطرة كأداة ضغط جيوسياسية.
لطالما حذر المدافعون عن السيادة الرقمية في أوروبا من أن القوانين الأمريكية قد تسمح للوكالات الحكومية الأمريكية بالتجسس على بيانات حساسة مخزنة على خوادم مملوكة لشركات أمريكية. ومع تعقيدات السياسة الأمريكية وتغيرها السريع، يزداد الخوف من إمكانية استخدام هذه الهيمنة التكنولوجية كسلاح جيوسياسي.
تحذيرات متزايدة وخطر الانقطاع
قال زاك مايرز، مدير الأبحاث في مركز CERRE ببروكسل:
“ترامب يكره أوروبا بشدة ويعتقد أن هدف الاتحاد الأوروبي هو العبث بأمريكا. فكرة أن يأمر بقطع الاتفاقيات أو القيام بإجراءات تضر بالمصالح الاقتصادية ليست مستبعدة كما بدت سابقًا.”
حتى بعض الخبراء في مجال التكنولوجيا السحابية، مثل ألكسندر ويندبيشلر، الرئيس التنفيذي لشركة نمساوية للحوسبة السحابية، أقروا بأن الاعتماد على مقدمي الخدمات السحابية الأمريكيين “غير صحي”. وقال:
“لم أتوقع قط أن تهدد الولايات المتحدة بضم غرينلاند، وهذا أكثر جنونًا من تهديد وقف خدمات الحوسبة السحابية.”
سيناريو إيقاف الخدمات: هل هو ممكن؟
تقنيًا، يعني الأمر أن الإدارة الأمريكية قد تصدر أوامر لشركات الحوسبة السحابية بوقف خدماتها في أوروبا، مما يؤدي إلى قطع خدمات الإنترنت الحيوية، وهو ما يُشبه إغلاق صنبور المياه فجأة.
مع أن هذا السيناريو متطرف، إلا أن شركات التكنولوجيا الأمريكية لا تستبعده. ففي أبريل 2025، أعلنت مايكروسوفت عن إضافة بنود ملزمة في عقودها مع الحكومات الأوروبية لضمان استمرار الخدمات، لكنها لم تنفِ إمكانية تحدي قرارات الإدارة أمام المحاكم. وأكد رئيس مايكروسوفت براد سميث أن “خطر توقف الخدمة بأمر من الحكومة الأمريكية هو مصدر قلق حقيقي في أوروبا.”
أما أمازون، فأعلنت هيكلًا جديدًا لضمان عمليات مستقلة في أوروبا، وأبلغت موظفيها بالاستعداد للرد على استفسارات العملاء بخصوص احتمالية الحظر الدولي.
هل يمكن للشركات مقاومة ترامب؟
يتساءل الخبراء عن مدى قدرة شركات التكنولوجيا الأمريكية على الوقوف في وجه الإدارة الأمريكية. كريستينا كافارا، خبيرة الاقتصاد والتكنولوجيا في كلية لندن الجامعية، قالت لصحيفة بوليتيكو:
“إذا تحول هذا البعد السياسي إلى عدائي، فما مدى مصداقية قدرة الشركات ذات النوايا الحسنة على تحدي رئيسها؟”
ما وراء التهديد: أزمة السيادة الرقمية الأوروبية
هذه الأزمة تُسلط الضوء على مشكلة أعمق تتعلق بسيادة أوروبا الرقمية، حيث يعتمد اقتصاد وحكومات الاتحاد الأوروبي على شركات أجنبية للمهام الحيوية. مع تصاعد التوترات السياسية والجيوسياسية، فإن هذه الهيمنة قد تُستخدم كورقة ضغط، ما يهدد ليس فقط الاقتصاد الأوروبي بل أيضاً الأمن القومي.
في ظل عودة ترامب وسياسته غير المتوقعة، يبدو أن أوروبا لا تملك حاليًا الوسائل الكافية لمواجهة أو حتى التخفيف من تأثير هذه الهجمات الرقمية المحتملة. وتبقى الأسئلة قائمة: كيف يمكن لأوروبا بناء بنية تحتية رقمية مستقلة وآمنة؟ وهل سيستمر الاعتماد على شركات أمريكية قد تستخدم نفوذها ضد مصالح القارة؟
وعودة ترامب إلى البيت الأبيض ليست مجرد عودة لسياسة داخلية متقلبة، بل تعني أيضًا أن أوروبا تواجه خطرًا جديدًا يتمثل في إمكانية قطع الإنترنت أو تعطيل الخدمات الرقمية الحيوية التي تعتمد عليها بشكل شبه كامل على الولايات المتحدة. ومع غياب بنية تحتية سحابية أوروبية قوية ومستقلة، تبقى أوروبا عرضة لهذا التهديد، وتحتاج إلى استراتيجيات عاجلة لتعزيز سيادتها الرقمية وحماية مصالحها في عالم متصل رقمياً.