أجبرت صدمة أسعار النفط وخسائر بعض الرهانات الاستثمارية الضخمة الرياض على مراجعة وتخفيض طموحات رؤية 2030، التي قادها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، وتحويل مشاريع استعراضية إلى ملفات معلّقة أو أعيد جدولتها زمنياً.
وقالت صحيفة التايمز البريطانية إن ما بدا مخططًا لتحويل المملكة من اقتصاد نفطي إلى قوة تكنولوجية وعمرانية صار اليوم اختبارًا حقيقيًا لقصور التخطيط المالي والرهان على نمو مرتفع للنفط.
وبحسب الصحيفة فإن منابر منتدى «مبادرة مستقبل الاستثمار» كشفت الوجه الإعلامي لهذا التحول: شركة «هيومن» للذكاء الاصطناعي، المدعومة من الصندوق السيادي ويترأس مجلس إدارتها ولي العهد، وقّعت صفقات كبيرة مع أرامكو وبلاكستون، في محاولة لبيع قصة التحوّل إلى اقتصاد المعرفة.
لكن هذه الصورة اللامعة اصطدمت بتجارب سابقة متعثرة لصندوق الاستثمارات العامة في رهانات دولية تكلّفت مليارات الدولارات وأفضت إلى نتائج متفاوتة.
رهانات فاشلة وتكاليف باهظة
من بين إخفاقات استثمارات صندوق الثروة: حصص كبيرة في «صندوق رؤية سوفت بنك» بقيمة نحو 45 مليار دولار، استثمارات مبكرة في شركات مثل «ماجيك ليب» و«لوسيد» التي لم تُدر أرباحًا حتى الآن، وبيع مبكر لأسهم في «تسلا» قبل ارتفاع قيمتها الهائل.
ومع وجود بعض النجاحات (أوبر وبعض صفقات الألعاب)، بقيت كثير من الرهانات تُسجل كتكلفة ثقيلة على الموارد المالية للمملكة.
في المقابل، أنفقت الحكومة بلا حساب على مشاريع عملاقة محلية: نيوم و«ذا لاين» و«سندالة» وجزيرة اليخوت و«تروجينا» الجبلي و«المربع الجديد» في الرياض، إضافة إلى طموحات لاستضافة فعاليات عالمية مثل الألعاب الآسيوية وكأس العالم 2034 وربما الألعاب الأولمبية. اليوم، أجزاء واسعة من هذه المشاريع تُعاد جدولة مواعيدها وتُقصّ ميزانيتها.
التبعات الاقتصادية والمالية
المعادلة بسيطة: «رؤية 2030» بُنيت على افتراض سعر نفط يقارب 100 دولار للبرميل؛ لكن السعر ظل في حدود ~60 دولارًا منذ 2022، ما خفّض إيرادات الدولة وزاد عجز الموازنة المتوقّع إلى نحو 65 مليار دولار.
وقد خفضت الحكومة السعودية الإنفاق الرأسمالي بنحو 40% هذا العام، وصندوق الاستثمارات العامة سجل تراجعًا في استثماراته في المشاريع العملاقة إلى نحو 56 مليار دولار بنهاية العام الماضي.
والنتيجة لجوء إلى الاقتراض، بحث عن شراكات وتمويلات دولية، وإعادة توجيه الصندوق لتمويل مشاريع محلية. الإصلاحات المصاحبة تضمنت دعوة المستثمرين الأجانب لرفع سقوف الملكية وتخفيف قيود تملك العقارات، لكن تأثير ذلك بحاجة لوقت وبيئة استثمارية مستقرة.
آثار اجتماعية وسياسية
التعديل في الإنفاق أثر في ثقة المستهلك ورفع تكاليف الاقتراض وهدّد وتيرة إنجاز مشاريع بنيوية. وفي الوقت ذاته، لا يمكن تجاهل مكتسبات إصلاحية حقيقية: توسع قطاع السياحة، دخول النساء إلى سوق العمل بنسبة تزيد عن ثلث القوى العاملة، وإصلاحات قضائية حسّنت مناخ الأعمال.
ويركز النقد على «البهرجة الإعلامية» التي صرّفت الأنظار عن هذه الإنجازات الجوهرية، في حين استنزفت مبالغ طائلة في مشاريع قد تكون رمزية أكثر منها منتجة.
ويؤكد المسؤولون السعوديون أن المشاريع لم تُلغَ بل أُعيد ترتيب أولوياتها؛ إنزيريلو ومصادر حكومية وصفوا القرار بـ«تصحيح المسار» و«واقعية براغماتية».
لكن التساؤل يبقى: هل هذا تكيّف إستراتيجي أم اعتراف بأن كثيرًا من الرهانات كانت مبنية على أوهام جاذبية إعلامية أكثر منها جدوى اقتصادية؟
والرهان الجديد على الذكاء الاصطناعي ومراكز البيانات يملك عناصر قوة حقيقية — طاقة رخيصة ومساحات صحراوية واسعة — لكنه أيضًا يحمل مخاطر تنفيذية كبيرة. نجاحه يتطلب إدارة احترافية طويلة الأمد، شراكات تقنية ذات مصداقية، وسياسات حوكمة تستفيد من أخطاء الماضي.
من البهرجة إلى الاستدامة
إنفاق تريليوني — أو أرقام قريبة من ذلك — لم يعد فخرًا بقدر ما صار عبئًا إذا لم يرافقه إنتاج حقيقي وعوائد مستدامة.
وأمام ولي العهد اختبار واضح: تحويل الدروس إلى استراتيجيات أكثر تحفظًا تضمن عوائد حقيقية، أو الاستمرار في مشاريع لامعة تُنتج عناوين إعلامية لكنها تترك اقتصادًا مثقلاً وميزانية هشة.
الخيار بين البهرجة والتحوّل الحقيقي سيحدد مصير «رؤية 2030» في السنوات المقبلة.