بالنسبة لشريحة واسعة من المسلمين في المملكة المتحدة، لم تعد الدولة التي وُلدوا فيها أو استقروا بها منذ عقود تُعامَل بوصفها وطنًا متساوي الحقوق، بل كبيئة سياسية وأمنية مشروطة، تتسع فيها الشكوك وتضيق فيها مساحة المواطنة الكاملة.
ويرى مراقبون أن هذا التحول كان نتاج مسار طويل بدأ مع تشريعات “مكافحة الإرهاب” مطلع الألفية، وتكرّس مع الزمن كواقع قانوني واجتماعي دائم.
ومع إقرار قانون مكافحة الإرهاب البريطاني عام 2000، انتقلت الدولة من إدارة استثنائية للتهديدات إلى إطار قانوني دائم، توسّع في تعريف الإرهاب ليشمل “الدوافع الأيديولوجية”.
وأعاد ذلك رسم العلاقة بين الدولة والمجتمعات المسلمة، عبر ربط النشاط السياسي أو الخطاب المرتبط بقضايا العالم الإسلامي بمخاطر أمنية محتملة.
وجاءت هجمات 11 سبتمبر 2001 لتُسرّع هذا المسار. ومنذ ذلك الحين، أصبحت المجتمعات المسلمة في بريطانيا محاطة بسؤال وجودي: هل يُنظر إلينا كمواطنين أم كجماعات يُفترض بها إثبات ولائها باستمرار؟ هذا السؤال لم يكن نظريًا، بل ترجمته سياسات رقابية وتشريعات متلاحقة وسّعت صلاحيات المراقبة، والاحتجاز، وتجريم الخطاب.
في مواجهة هذا الواقع، تبنّت قطاعات واسعة من المؤسسات الإسلامية نهج “إثبات الولاء”.
ورُكّز الخطاب العام على التأكيد أن المسلمين جزء من النسيج الوطني، وأنهم ملتزمون بالقانون، ومساهمون اقتصاديًا، وذوو تاريخ طويل في خدمة الدولة، بما في ذلك في القوات المسلحة.
وكان الهدف كسب الشرعية والطمأنة، حتى لو جاء ذلك أحيانًا على حساب الدفاع الصريح عن المتضررين من السياسات الأمنية.
ورافق هذا النهج خطاب ديني واجتماعي يؤكد “الواجب المدني” للمسلم في بلد غير مسلم، ويشدد على الطاعة القانونية والاندماج الكامل، بل وإعادة توصيف بريطانيا كمكان صالح للعيش الديني الآمن. غير أن هذه الاستراتيجية، رغم انتشارها، لم توقف تمدد صلاحيات الدولة.
وبحلول العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، أصبحت القيود على حرية التعبير أكثر رسوخًا، وتحوّل سحب الجنسية إلى أداة سياسية وقانونية متكررة.
وتشير تقارير حديثة، بينها تقرير مشترك لمؤسسة “رانيميد ترست” ومنظمة “ريبريف”، إلى أن المسلمين من أصول جنوب آسيوية أو شرق أوسطية أو شمال أفريقية هم الأكثر تضررًا من هذه السياسات، في إطار ما يشبه نظام مواطنة من مستويين.
وقد لعب الإعلام دورًا محوريًا في تهيئة الرأي العام لتقبّل هذه الإجراءات. جرى تقديم شخصيات معينة عبر صور نمطية معادية للإسلام، ما سهّل تمرير سياسات استثنائية تمس جوهر سيادة القانون. ومع الوقت، لم يعد الأمر يُنظر إليه كصدمة، بل كجزء “طبيعي” من صلاحيات الدولة.
وترك هذا الواقع أثرًا عميقًا على الأجيال الشابة. في الفضاء الرقمي، تتزايد النقاشات حول مفهوم “الهجرة” بوصفها خيارًا مستقبليًا، ليس بالضرورة بدافع اقتصادي، بل كخطة احترازية للهروب من بيئة يُنظر إليها على أنها عدائية أو غير مضمونة.
وتنتشر أدبيات وإرشادات عملية تناقش الدول البديلة، وإجراءات الانتقال، ومخاطر ازدواج الجنسية، في مؤشر على تآكل الثقة في استقرار المواطنة البريطانية.
وبالنسبة لهذا الجيل، لم تعد فكرة أن بريطانيا توفر الأمان والعدالة أمرًا مسلّمًا به. الاعتقالات المرتبطة بالاحتجاج على دعم الحرب في غزة، واستخدام قوانين الأمن ضد ناشطين، عززت الشعور بأن الحقوق ليست ثابتة، بل خاضعة للحسابات السياسية.
في هذا السياق، تبدو استراتيجيات “التمثيل والطمأنة” التي تبناها جيل الآباء بعيدة عن واقع اليوم. فالمعادلة تغيّرت: لم يعد المطلوب إقناع الدولة بالولاء، بل مواجهة حقيقة أن المواطنة نفسها باتت مشروطة. بالنسبة لكثير من المسلمين البريطانيين، لم تعد المملكة المتحدة وطنًا يُفترض به الحماية، بل ساحة اختبار دائم للانتماء والحقوق.