بينما تتسارع الولايات المتحدة والصين نحو تأسيس وجودٍ بشري على القمر، تتحرك عشرات الدول لخفض مخاطر الاحتكاك وتحويل المنافسة إلى تعاون مُنظَّم.
وانعقد الاجتماع الأحدث لبلدان اتفاقيات أرتميس على هامش المؤتمر الدولي للملاحة الفضائية في سيدني أعاد التأكيد على “قواعد الطريق” فوق المدار القمري: الشفافية في جداول الإطلاق والأنشطة، الإعلان المسبق عن مواقع الهبوط، إدارة المخلفات المدارية، وتبادل البيانات العلمية.
وجرى مناقشة هذه التوصيات رسميًا بين الدول المشاركة بصفتها حزمة إجراءات لتجنّب التدخل المتبادل أثناء المهام.
ومنذ توقيع الاتفاقيات عام 2020 بثمانية مؤسسين، تَوسّع “تحالف أرتميس” بسرعة ليضم 56 دولة حتى 3 أكتوبر/تشرين الأول 2025، بما يُعزّز وزنها السياسي والمعياري في وضع أعراف العمل القمري خلال العقد المقبل.
دور إماراتي نشِط… ورسائل شفافية واستدامة
شاركت الإمارات العربية المتحدة في رئاسة لقاء سيدني باعتبارها عضوًا مؤسسًا، مؤكدة عبر وزيرها ورئيس مجلس إدارة وكالة الإمارات للفضاء أحمد الفلاسي أن المشاركة الفاعلة في ورش أرتميس تهدف إلى ترسيخ الشفافية والاستدامة والابتكار في الأنشطة الفضائية، وأن الشراكات الدولية هي الطريق لضمان أن يبقى الفضاء “مجالًا للسلام والازدهار المشترك”.
هذه الرسائل سبق أن تبنّتها أبوظبي في ورش وبرامج تعاون رسمية خلال 2025.
ورغم أن الصين ليست ضمن الموقّعين على أرتميس، إلا أن تراكم البعثات إلى القمر يجعل التنسيق العملي أمرًا لا مفر منه، على غرار ما حدث في المدار الأرضي خلال الحرب الباردة.
وتسابق بكين الزمن: فقد أنجزت في أغسطس/آب اختبارات هبوط وإقلاع لمركبة الهبوط المأهولة “لانيوي”، وأجرت اختبارات دفع رئيسية لصاروخ لونغ مارش-10، تمهيدًا لهبوطٍ مأهول بحلول 2030 تقريبًا. هذه المحطات الفنية تؤشر إلى انتقال برنامج الهبوط الصيني من التخطيط إلى البرهنة العملية.
على الضفة الأخرى، تُثبّت ناسا مع شركائها جدول برنامج أرتميس: فمهمة أرتميس-2، أول رحلة مأهولة حول القمر ضمن البرنامج، باتت مُجدولة “لا بعد أبريل/نيسان 2026” على صاروخ SLS وكبسولة أوريون، مع استمرار أعمال التكامل والاختبارات.
وتُعد أرتميس-2 حلقة الوصل قبل أرتميس-3، المخصصة للهبوط البشري، بالتعاون مع القطاع الخاص مثل سبيس إكس وبلو أوريجين لتطوير مركبات الهبوط.
لماذا تُحدث “قواعد السلوك” فرقًا؟
على سطحٍ محدود الموارد والمساحات الصالحة للهبوط، قد تُسبّب تحركات غير منسقة تلوثًا غبارياً يعطل أجهزة الآخرين، أو تداخلات ترددية، أو تضارُبًا على “المناطق المفيدة” بالقرب من موارد الجليد.
لذا تُصر بلدان أرتميس على مبادئ عدم التدخل، والشفافية في الإعلانات المسبقة، وقابلية تشغيل الأنظمة البينية (Interoperability) بين مركبات ومعدات دول متعددة، إلى جانب سياسات صارمة لتخفيف الحطام والتخلص الآمن منه. هذه النقاط أُدرجت بجلاء في مداولات سيدني الأخيرة.
والمفارقة أن تنافس القِطبين قد يخلق فرص وصول غير مسبوقة للدول الصاعدة: فمن خلال التحالفات، يمكن لدول بلا منصات إطلاق ثقيلة أو ميزانيات عملاقة أن تنفذ تجاربها العلمية على بنية تحتية قمرية مشتركة، وتستفيد من المواصلات والبيانات التي يصعب تمويلها منفردة.
هنا يبرز دور دول مثل الإمارات في وصل الباحثين والقطاع الخاص إقليميًا بشبكات أرتميس ومشروعاتها التعليمية والعلمية.
التحدّي المالي والتقني… ومن يمكث أولًا؟
طموح “الوجود المستدام” أعلى كُلفة بكثير من “زيارة ووضع أقدام”. ورغم أن SLS/Orion تمثلان العمود الفقري الحكومي، فإن الجدل مستمر حول كُلفة الإطلاقات مقابل حلول قابلة لإعادة الاستخدام مثل Starship قيد التطوير.
لكن ناسا تُذكّر بأن سلامة الطواقم تُحتّم وتيرة اختبارات متأنية، وأن نجاح أرتميس-2 معيارٌ للانتقال الآمن إلى الهبوط المأهول. زمنيًا، ومع بقاء خطط الصين للهبوط حتى 2030 تقريبًا، تميل الترجيحات إلى أن تكون الولايات المتحدة وشركاؤها أول من يرسخ وجودًا بشريًا في هذا العقد—إذا تجنبت مزيدًا من التأخيرات.
وتَحوّلُ اتفاقيات أرتميس إلى مرجعية سلوكية واسعة الانتشار (56 دولة) يمنح المجتمع الدولي منصةً عملية لاحتواء مخاطر التصادم وسط سباق محموم.
ومع دور إماراتي نشِط في رعاية الحوار والمعايير، وتمسّك ناسا بجدول 2026 للرحلة المأهولة حول القمر، تتقدّم صيغة “التنافس تحت قواعد” باعتبارها الخيار الواقعي لتجنّب “حرب نجوم” جديدة—وفتح الباب لعلمٍ أكثر، وشراكاتٍ أوسع، وحضورٍ بشري يبقى… لا يمرّ مرورًا سريعًا.