تشير أحدث التوقعات السكانية العالمية الصادرة عن مكتب الإحصاء الأمريكي إلى تحوّل ديموغرافي غير مسبوق سيعيد تشكيل موازين القوة الاقتصادية والسياسية خلال القرن الحادي والعشرين، مع اتجاه الصين نحو أكبر انخفاض سكاني في التاريخ المسجّل، مقابل صعود متسارع لأفريقيا كمركز الثقل البشري العالمي.
ووفق هذه التقديرات، سيشهد العالم بحلول عام 2100 تبايناً حاداً في الأعمار والقوى العاملة، حيث ستكون أفريقيا القارة الأصغر سناً، بينما تتقدم شرق آسيا وأوروبا سريعاً نحو الشيخوخة.
وهذا التحول، إذا ما تحقق، لن يكون مجرد تغيير إحصائي، بل زلزالاً جيوسياسياً يطال أسواق العمل والجيوش والاقتصادات وأنماط الهجرة.
وتُظهر البيانات أن عدد سكان أفريقيا مرشح لأن يتضاعف أكثر من مرتين بين عامي 2030 و2100، بزيادة تُقدَّر بنحو 155%.
في المقابل، يُتوقع أن ينخفض عدد سكان آسيا بنسبة 9%، وأن ينكمش سكان أوروبا بنحو 16%، مع استمرار الاتجاهات طويلة الأمد لانخفاض الخصوبة وارتفاع متوسط الأعمار.
أما الأميركتان، فستشهدان مسارات متباينة: انكماش متوقع في أمريكا الجنوبية بنسبة 12%، مقابل نمو طفيف في أمريكا الشمالية لا يتجاوز 4%، مدفوعاً أساساً بالهجرة لا بالمواليد.
لكن الحدث الأبرز في هذه الصورة يتمثل في الصين. فبحسب مراجعة بيانات مكتب الإحصاء، يُتوقع أن ينخفض عدد سكانها من نحو 1.4 مليار نسمة حالياً إلى 662 مليون نسمة بحلول عام 2100.
ويُعد هذا الانخفاض، الذي يتجاوز 700 مليون نسمة، الأكبر لأي دولة في التاريخ الديموغرافي الحديث، ما يضع ثاني أكبر اقتصاد في العالم أمام تحديات بنيوية عميقة.
وسيؤثر هذا التراجع السكاني الحاد في الصين، إلى جانب الانكماش المتوقع في بقية شرق آسيا وأوروبا، في حجم القوى العاملة والقدرة الإنتاجية، وقد يفرض قيوداً على الإنفاق العسكري والنفوذ الدولي.
كما سيُكثف المنافسة العالمية على استقطاب المهاجرين، في وقت تتسارع فيه وتيرة الأتمتة والاعتماد على الذكاء الاصطناعي لتعويض نقص الأيدي العاملة.
في المقابل، تبرز أفريقيا كقصة النمو الديموغرافي الأكبر في القرن المقبل. وتشير التقديرات إلى أن جمهورية الكونغو الديمقراطية ستتحول إلى دولة عملاقة، إذ سيرتفع عدد سكانها من 139 مليون نسمة عام 2030 إلى 584 مليوناً بحلول 2100، وهي أكبر زيادة متوقعة على مستوى العالم.
كما يُنتظر أن تشهد نيجيريا زيادة بنحو 283 مليون نسمة، بينما تسجل دول مثل تنزانيا وإثيوبيا وأوغندا وأنغولا والنيجر زيادات تقارب 100 مليون نسمة لكل منها.
وستوفر هذه الطفرة السكانية الأفريقية الجزء الأكبر من القوى العاملة المستقبلية في العالم، إلى جانب توسع سريع في قاعدة المستهلكين والمراكز الحضرية.
غير أن هذا “العائد الديموغرافي” يحمل وجهين: فإما أن يتحول إلى محرك للنمو الاقتصادي السريع، أو أن يقود إلى أزمات إنسانية حادة إذا عجزت الدول عن توفير الاستقرار السياسي والبنية التحتية وفرص العمل.
وعلى مستوى الدول الكبرى، ستحتفظ الهند بصدارتها السكانية بنحو 1.5 مليار نسمة حتى نهاية القرن، لتكون الدولة الوحيدة بين الكبار التي لا يُتوقع أن تشهد انخفاضاً سكانياً.
في المقابل، تواجه روسيا واليابان وكوريا الجنوبية وأوكرانيا وإيطاليا وإسبانيا انهيارات ديموغرافية هيكلية بفعل الشيخوخة وتراجع الخصوبة.
ورغم وضوح الاتجاهات العامة، يحذر الخبراء من أن 75 عاماً زمن طويل قد يشهد صدمات كبرى، مثل حروب عالمية أو كوارث مناخية أو أزمات اقتصادية أو تحولات اجتماعية، قادرة على تغيير المسارات السكانية جذرياً.
ومع ذلك، تبقى الصورة العامة واضحة: عالم يتجه نحو جنوب أكثر شباباً وكثافة سكانية، وشمال يشيخ ويتقلص، في تحوّل سيعيد رسم موازين القوة والاقتصاد والهجرة، ويضع الصين أمام واحد من أعقد التحديات في تاريخها الحديث.