بينما يحتفل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بوقف إطلاق النار الذي أنهى عامين من الحرب المدمّرة على غزة، تُبدي العواصم الأوروبية حذرًا بالغًا حيال الخطوة الأميركية الجديدة، وتصرّ على أن أي سلامٍ حقيقي مرهون بمدى التزام إسرائيل بوعودها تجاه الفلسطينيين — لا بمجرد وقف مؤقت للقتال.
ففي أروقة الاتحاد الأوروبي، يرى الدبلوماسيون والمسؤولون أن خطة ترامب للسلام، رغم نجاحها في وقف نزيف الحرب، لا تُعفي إسرائيل من المحاسبة على الجرائم المرتكبة ولا تمنحها شيكًا على بياض لاستعادة التعاون السياسي والاقتصادي مع أوروبا.
ضغط أوروبي بلا تراجع
نقلت صحيفة بوليتيكو عن مسؤول أوروبي بارز قوله إن “ضغطنا على إسرائيل أثمر نتائج ملموسة، وإذا أردنا رفع هذا الضغط، فعلى إسرائيل أن تُنفذ وعودها كاملة.”
وأشار المسؤول إلى أن تدمير غزة ومقتل أكثر من 60 ألف فلسطيني “يتطلبان مساءلة وعدالة وخطة إعادة إعمار ممولة بجدية”، مؤكدًا أن أوروبا “لن ترفع العقوبات أو توقف ضغوطها ما لم تلتزم إسرائيل فعلاً”.
ويبدو أن هذا الموقف أصبح إجماعًا ضمنيًا داخل الاتحاد الأوروبي. فبعد عامين من المجازر والمعاناة، تشعر الحكومات الأوروبية بضغطٍ شعبي غير مسبوق نتيجة المظاهرات الواسعة الداعمة لفلسطين.
وقد أدت الحرب إلى انقسام عميق في المجتمعات الأوروبية، وأججت الجدل السياسي حول علاقة الغرب بإسرائيل وازدواجية المعايير في قضايا حقوق الإنسان.
ففي فرنسا، يقود الرئيس إيمانويل ماكرون حملةً للاعتراف الرسمي بدولة فلسطين في الأمم المتحدة، بينما تتصاعد في ألمانيا وبريطانيا أصوات تطالب بمحاسبة إسرائيل على جرائم الحرب.
انقسام داخل الاتحاد الأوروبي حول العقوبات
كانت المفوضية الأوروبية قد اقترحت في سبتمبر الماضي حزمة عقوبات على إسرائيل تشمل تقييد التعاون التجاري والعسكري، لكن الدول الأعضاء لم تتوصل إلى اتفاق حول تطبيقها.
ورغم هذا الفشل، يؤكد دبلوماسيون أن الخلاف لا يعني التراجع، بل استمرار النقاش إلى حين التحقق من نوايا إسرائيل بعد وقف إطلاق النار.
وقال مسؤول أوروبي: “إذا أرسلت إسرائيل إشارات واضحة بشأن إعادة الإعمار ورفع الحصار عن غزة، يمكننا النظر في مراجعة الموقف. أما إن تراجعت عن التزاماتها، فالعقوبات ستعود إلى الطاولة فورًا.”
وفي المقابل، يحاول السفير الإسرائيلي الجديد لدى الاتحاد الأوروبي إقناع بروكسل بـ“رفع التهديدات العقابية واستعادة التعاون الثنائي الكامل”، بحجة أن الهدنة الحالية تزيل مبررات الضغط.
لكنّ رد المفوضية الأوروبية جاء فاترًا، إذ قالت المتحدثة باسمها إن “السياق الميداني لا يزال هشًّا، ومن المبكر الحديث عن أي تغيير في السياسات”.
“خطوة أولى لا أكثر”
حذرت مفوضة الاتحاد الأوروبي للمساعدات الإنسانية، حاجة لحبيب، في تصريح على منصة إكس من الإفراط في التفاؤل، مؤكدة أن “إطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين خطوة أولى فقط، ويجب أن تتبعها خطوات عاجلة لإيصال المساعدات للفلسطينيين وإطلاق عملية سياسية دائمة.”
فبالنسبة لكثير من العواصم الأوروبية، لا يمكن الحديث عن “سلام” بينما غزة مدمرة بالكامل وتعيش مجاعة حقيقية. ويرى الأوروبيون أن إسرائيل مطالبة بتسهيل دخول المساعدات وإعادة الخدمات الأساسية قبل أي حديث عن تطبيع العلاقات معها.
وفي بروكسل، لا يخفي الدبلوماسيون شعورهم بأن الولايات المتحدة تحاول احتكار عملية السلام عبر “مجلس السلام” الذي اقترحه ترامب لإدارة غزة، والذي لم تُكشف تفاصيله بعد.
ويخشى الأوروبيون أن يتحول هذا المجلس إلى غطاء لمشاريع إعادة إعمار تجارية تقودها شركات غربية وأميركية كبرى، من دون إشرافٍ دولي حقيقي.
وقال مسؤول أوروبي مشارك في المناقشات: “يجب ألا تكون أوروبا مجرد جهة تمويل. نحن المانح الأكبر للفلسطينيين، ويجب أن نكون طرفًا سياسيًا فاعلًا في تحديد مستقبل غزة، لا مجرد ممولين للفوضى.”
في المقابل، عبّر دبلوماسي من إحدى دول الخليج عن خيبة أمل من أداء الاتحاد الأوروبي، قائلاً إن “أوروبا كانت غائبة تمامًا خلال الحرب، ولا يبدو واضحًا بعد ما الدور الذي يمكن أن تلعبه الآن.
إرث الحرب ومأزق القارة
في العواصم الأوروبية، يُدرك الساسة أن الشرق الأوسط بات قضية داخلية تؤثر على المشهد الانتخابي في بلدانهم. فصور المجازر في غزة لم تعد بعيدة عن ناخبيهم، بل تملأ شاشات هواتفهم وتثير موجات غضب بين الشباب الأوروبي.
وأظهر الهجوم على كنيس يهودي في مانشستر مؤخرًا حجم الاستقطاب الذي خلفته الحرب، فيما تحذر الحكومات من أن تجاهل العدالة في غزة قد يؤجج التوتر الداخلي أكثر.
وقال مسؤول أوروبي كبير: “إذا غابت العدالة والمساءلة، فسيكون لذلك ثمن داخل أوروبا نفسها. القضية الفلسطينية لم تعد شأنًا خارجيًا بل أصبحت اختبارًا لقيمنا.”