مع التحولات الدراماتيكية في المشهد السوري واندفاع قوى المعارضة إلى قلب القرار في دمشق، تجددت آمال آلاف السجناء السوريين في لبنان بالحصول على العدالة عبر إعادتهم إلى بلدهم ومحاكمتهم هناك.
ويبرز هذا الملف اليوم كأحد أعمدة التقارب الجاري صياغته بين الحكومتين اللبنانية والسورية بعد قطيعة امتدت لعقود، إذ ترى بيروت ودمشق في اتفاق قضائي قيد الإعداد فرصة لمعالجة إرثٍ ثقيل من الاعتقالات والإجراءات غير المكتملة.
داخل سجن رومية سيئ الصيت، حيث الاكتظاظ المزمن وسوء الرعاية الصحية وشكاوى التعذيب، تعالت هتافات مبتهجة عندما سرت أنباء سقوط الحكم السابق في دمشق.
“لن ينسونا”، يقول قصي (اسم مستعار)، ناشط إعلامي أُوقف العام الماضي بعد توثيقه أوضاع اللاجئين في عرسال وحملات الترحيل.
ويؤكد أنه تعرض للتعذيب لانتزاع اعتراف بالانتماء إلى مجموعة مسلحة سابقة، قبل أن يُدان بتهم إرهاب.
إلى جانبه، يختصر خالد (اسم مستعار) معاناة عقد كامل بلا محاكمة: “أنا مثل معظم السوريين في سجون لبنان: اعتقالٌ طويل، ومحاكمات مؤجلة، وصورة نمطية تساوي بين اللاجئ والجريمة”.
عدد السجناء السوريين في لبنان
وتقدّر السلطات اللبنانية عدد السجناء السوريين بنحو 2,400–2,600، بينهم وفق مصادر قضائية نحو 70% بلا أحكام ينتظرون محاكمات طالها التأخير بسبب الإضرابات وضعف الموارد.
يقول القاضي رجا أبي نادر، عضو اللجنة المشتركة للتفاوض على إعادة السجناء: “أزلنا معضلة النقل من المعادلة؛ نحضر القضاة والمحامين إلى السجن لتسريع الجلسات… لكن الملف يحتاج قناة مؤسسية مع دمشق واتفاقًا قضائيًا واضحًا”.
سياسيًا، يقدّم ملف السجناء اختبار ثقة للعلاقة الناشئة بين البلدين.
ويعبر نائب رئيس الوزراء اللبناني طارق متري، المشرف على مسار العلاقات، عن أمل بتمرير المعاهدة القضائية سريعًا فور موافقة اللجنة السورية، قائلاً: “نحن ملتزمون بالعمل معًا. نسعى إلى علاقة ودية قائمة على الاحترام المتبادل؛ أمر لم نعهده منذ خمسين عامًا”.
في المقابل، يبدي محمد طه الأحمد، رئيس اللجنة السورية، حذرًا: “المشروع ضخم لكن النية جادة. المطلوب آلية تضمن الحقوق وتبني الثقة”.
ويتمحور جوهر الخلاف حول نطاق العودة ومن تشملهم. فدمشق تطالب بعودة شاملة “دون ترك سوري خلف القضبان”، بمن في ذلك مدانون بجرائم عنف.
لكن بيروت ترفض إعادة من تورطوا في هجمات دامية داخل لبنان أو عبر الحدود، وترى أن هؤلاء “يعالجون على حدة”. وزير العدل اللبناني عادل نصار يقطع الطريق على مقايضات سياسية: “لا إطلاق لسجناء مدانين بجرائم قتل لنقلهم إلى السجون السورية. قد نحيل إلى دمشق ملفات موقوفين بلا أحكام لمحاكمتهم هناك، ما يخفف الضغط عن منظومتنا القضائية”.
من جهتها تلوح دمشق، بخيارات وسط بين السيادة وطمأنة الرأي العام: يقترح الأحمد أن يُستكمل تنفيذ أحكام المدانين في سجون سورية “إذا نالوا محاكمات عادلة ومنصفة في لبنان”، في إشارة إلى فجوة ثقة مزمنة لدى السوريين حيال عدالة الإجراءات في الجارة الصغرى. ويؤكد أن بلاده لن تطالب بالإفراج عن مقاتلين لبنانيين اعتقلوا إلى جانب سوريين: “هذا شأن لبناني داخلي”.
على الأرض، تحاول السلطات اللبنانية ترميم الثقة بخطوات إجرائية: إدخال المحاكمات إلى رومية، توسيع حضور الدفاع، وتوثيق الحالة الصحية للموقوفين.
لكن شهادات مسربة عبر هواتف مهربة تُظهر واقعًا قاسيًا: أسقف تتساقط، أمراض معدية، غذاء رديء، وإهمال طبي قاتل. يعترف متري: “نعلم جميعًا أن الوضع غير طبيعي وغير مقبول”.