تواجه فرنسا اضطرابات سياسية ومالية متفاقمة بعدما بات سقوط حكومة رئيس الوزراء فرانسوا بايرو في سبتمبر شبه حتمي. فقد راهن بايرو، الذي يقود حكومة أقلية هشة، على تصويت بالثقة لتمرير خططه لخفض العجز الكبير في الموازنة، لكن المعارضة تبدو موحّدة لأول مرة ضده.
وبحسب صحيفة بوليتكو فإن الرئيس إيمانويل ماكرون إذا خسر بايرو التصويت، سيكون عليه أن يقرر أي من الخيارات الثلاثة يتبنى: تعيين رئيس وزراء جديد، أو الدعوة لانتخابات مبكرة، أو مواجهة ضغوط متزايدة للاستقالة.
ومنذ تعيينه أواخر العام الماضي، واجه بايرو سلسلة من محاولات سحب الثقة نجا منها بفضل امتناع بعض خصومه عن التصويت.
لكن هذه المرة، أعلنت قوى اليسار (فرنسا المتمردة والاشتراكيون) واليمين المتطرف بقيادة مارين لوبان نيتها إسقاط الحكومة. وحتى مصادر مقربة من رئاسة الوزراء أقرت بأن فرص البقاء تكاد تكون معدومة ما لم يحدث تراجع غير متوقع.
وفشل بايرو في تقديم ميزانية مقنعة لخفض العجز، الذي بات يهدد بتخفيض التصنيف الائتماني لفرنسا ويزيد الضغوط في أسواق السندات، جعل خصومه يعتبرونه الحلقة الأضعف في معادلة الحكم.
الخيار الأول: تعيين رئيس وزراء جديد
إذا استقال بايرو أو سقط، سيكون ثاني رئيس وزراء يرحل منذ انتخابات الصيف الماضي المبكرة التي أفرزت برلمانًا معلقًا بثلاث كتل متقاربة: يسار متحالف، وسطيون مع المحافظين، ويمين متطرف قوي.
تعيين رئيس وزراء ثالث قد يبدو تكرارًا للفشل، لكنه قد يكون السبيل الوحيد لماكرون للحفاظ على تماسك السلطة حتى انتخابات 2027 الرئاسية.
من أبرز الأسماء المطروحة: سيباستيان ليكورنو (39 عامًا)، وزير الدفاع وحليف ماكرون المقرب، ذو خلفية يمينية، ما يجعله قادرًا على استمالة بعض أصوات اليمين المتطرف.
خيار آخر قد يكون برنار كازنوف، رئيس الوزراء الاشتراكي السابق، في محاولة لفتح قنوات مع يسار الوسط. لكن الاشتراكيين سيطالبون بتنازلات جوهرية مثل زيادة الضرائب أو مراجعة إصلاح التقاعد، وهي خطوط حمراء بالنسبة لماكرون.
ومع الانقسامات الحادة في معسكر يسار الوسط، ليس مضمونًا أن ينجح أي ائتلاف حكومي جديد في ضمان الاستقرار.
الخيار الثاني: الدعوة إلى انتخابات مبكرة
كمقامر سياسي، قد يلجأ ماكرون إلى حل الجمعية الوطنية وإعادة الناخبين لصناديق الاقتراع على أمل الخروج من المأزق. لكن هذا الخيار محفوف بالمخاطر:
الانتخابات المبكرة الصيف الماضي لم تغيّر موازين القوى، بل أدخلت البلاد في شلل تشريعي.
الاستطلاعات الحالية لا تشير إلى تغير كبير، ما يعني أن النتائج قد تعيد إنتاج نفس البرلمان المعلق.
مع ذلك، تعالت أصوات في المعارضة – من اليسار إلى اليمين المتطرف – تطالب بانتخابات جديدة. كتب لوبان على منصة X أن “الانتخابات المبكرة فقط ستسمح للفرنسيين باختيار مصيرهم”. فيما أعلن الزعيم الاشتراكي بوريس فالو أن حزبه يستعد لاحتمال توجه ماكرون لهذا الخيار.
إلا أن المشهد معقد أكثر مع استبعاد لوبان نفسها من الترشح بسبب إدانتها بالاختلاس، وهي قضية تنفيها وتستأنف ضدها.
الخيار الثالث: ضغوط الاستقالة
رغم أن احتمال استقالة ماكرون ضعيف، إلا أن الفوضى السياسية والمالية الراهنة غذّت دعوات لإخراجه من الإليزيه.
جان لوك ميلينشون، زعيم فرنسا المتمردة، تعهد بتقديم اقتراح برلماني لإقالة الرئيس، رغم إدراكه أن فرص تمريره شبه معدومة.
بعض المعلقين السياسيين المخضرمين بدأوا يناقشون علنًا فكرة الاستقالة كحل لأزمة الحكم.
ماكرون نفى قاطعًا التفكير في الخروج المبكر، مشددًا على عزمه قيادة البلاد حتى نهاية ولايته. لكن مستقبل فرنسا المالي – ولا سيما تمرير ميزانية مصغرة لعام 2026 تتضمن خفض الإنفاق – سيكون المحدد الأساسي لبقاء سلطته السياسية.
أزمة مالية تزيد الضغط
في خلفية الأزمة السياسية تكمن أزمة مالية عميقة. فرنسا مطالبة بخفض عجز ميزانيتها المتضخم، وإلا ستواجه عقوبات أوروبية وضغوطًا من الأسواق. عجز بايرو عن تمرير خطة فعالة عزز صورة حكومة ضعيفة غير قادرة على اتخاذ قرارات صعبة.
ويحذر محللون من أن أي تأخير إضافي قد يؤدي إلى ارتفاع كلفة الاقتراض، وهو ما قد يشعل أزمة ديون داخل منطقة اليورو، مع انعكاسات أوسع على الاقتصاد الأوروبي.
وبغض النظر عن المسار الذي سيختاره ماكرون، فإن الأزمة الحالية تكشف هشاشة النظام السياسي الفرنسي في ظل صعود القوى الشعبوية واستقطاب البرلمان. تعيين رئيس وزراء جديد قد يشتري بعض الوقت، لكن الجمود مرجح أن يستمر. الانتخابات المبكرة قد تفاقم الانقسام بدل أن تحله. أما الاستقالة فستفتح الباب أمام مرحلة مجهولة.
ماكرون، الذي بنى مسيرته على كسر التقاليد السياسية الفرنسية، يجد نفسه اليوم محاصرًا بين معارضة عنيدة وأزمة مالية ملتهبة. والخيار الذي سيتبناه في الأسابيع المقبلة سيحدد ليس فقط مستقبله السياسي، بل أيضًا مسار فرنسا في مرحلة حرجة من تاريخها.