مع إعلان رفع العقوبات الأمريكية والأوروبية التي ظلت مفروضة على سوريا لسنوات طويلة، تتجه البلاد نحو تنفيذ خطة إصلاح شاملة للنظام المالي بهدف إعادة دمج اقتصادها في الأسواق العالمية وتعزيز النمو الاقتصادي.
في مقابلة خاصة مع صحيفة “ذا ناشيونال”، أوضح محافظ البنك المركزي السوري، عبد القادر حصرية، الذي تولى منصبه في أبريل 2025، أن رفع العقوبات يمثل فرصة نادرة وحاسمة للسوريين، مؤكدًا أن بلاده تسير بخطى سريعة نحو تحديث السياسة النقدية وتطوير التشريعات المصرفية، فضلاً عن تعزيز آليات مكافحة غسل الأموال وجذب الودائع الأجنبية، بما في ذلك من جهات سيادية.
خارطة طريق اقتصادية جديدة
بحسب حصرية، تعتمد سوريا خطة متكاملة تركز على ثلاثة محاور رئيسية تبدأ بإعادة فتح قنوات التحويل المالي التي جمدتها العقوبات لسنوات، إلى جانب جذب الودائع والاستثمارات الأجنبية، وانتهاءً بإعادة دمج النظام المصرفي السوري في الشبكات العالمية للدفع والتسوية المالية.
قال حصرية في حديثه من دبي: “مع رفع العقوبات رسميًا في 8 ديسمبر 2024، وقرار الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، تبرز أمامنا نافذة ذهبية لدمج سوريا في النظام المالي الدولي ووضع أسس الانتعاش الاقتصادي المستدام.”
إصلاحات مالية متكاملة
تأتي هذه الخطوة بعد عقود من العزلة الاقتصادية التي أثرت بشكل حاد على النظام المالي السوري. فعلى مدار العقود الماضية، بقي الاقتصاد السوري مقيدًا بسياسات التخطيط المركزي القاسي التي فرضها النظام منذ عام 1963، إضافة إلى العقوبات الدولية التي بدأت في عام 1979 عقب تصنيف سوريا كدولة راعية للإرهاب.
أوضح محافظ البنك المركزي أن أولويات الإصلاح تشمل تحديث السياسة النقدية والانتقال من إدارة تدخلية قصيرة الأجل إلى نظام يستهدف ضبط التضخم ويمنح البنك المركزي استقلالية مؤسساتية تلتزم بالمعايير الدولية. وأكد حصرية أهمية استقرار سعر صرف الليرة السورية، مشيرًا إلى أن تقلباته تضر بالثقة في الاقتصاد وتحد من جذب الاستثمارات.
يأتي هذا التوجه في وقت لا يزال فيه الاقتصاد يعاني من تداعيات الحرب الأهلية التي اندلعت عام 2011، والتي أدت إلى انهيار حاد في قيمة العملة الوطنية وفقدان معظم بنيته الاقتصادية.
إعادة هيكلة المصارف وتعزيز الحوكمة
يقول حصرية: “تحتاج المصارف السورية إلى التحول من مجرد مؤسسات تقبل الودائع إلى مؤسسات فاعلة في الإقراض وتمويل المشاريع التنموية، خاصة في قطاعات البنية التحتية والقطاع الخاص.” وذكر أن إعادة هيكلة النظام المصرفي تتطلب تحسين معايير رأس المال، وتعزيز الحوكمة، وتوجيه التمويل نحو مشاريع إنتاجية تعزز النمو الاقتصادي.
وأشار إلى اهتمام أولي من بعض البنوك الإقليمية في السعودية وتركيا والإمارات بالاستثمار بمجرد رفع العقوبات، مما يعكس ثقة متزايدة في إمكانية استعادة النشاط الاقتصادي.
دعم دولي وإقليمي معزز
شهدت المرحلة الأخيرة دعمًا دبلوماسيًا وإقليميًا لدمشق بعد إسقاط نظام بشار الأسد من قبل فصيل مسلح في ديسمبر 2024، الذي أسفر عن تولي أحمد الشرع قيادة البلاد، حيث نجح في تأمين دعم إقليمي ودولي يعزز جهود إعادة البناء.
ويضيف حصرية أن سوريا تعمل حاليًا على تأمين مساعدات مالية وتقنية من الدول ذات الخبرة، إلى جانب التعاون مع مؤسسات دولية مثل البنك الدولي، الذي أبرم اتفاقًا لتسوية ديون سوريا المستحقة والتي بلغت 15.5 مليون دولار، بعد أن ساهمت السعودية وقطر بسدادها. كما وقعت الحكومة السورية اتفاقًا مع شركة موانئ دبي العالمية لتطوير ميناء طرطوس بقيمة 800 مليون دولار.
خطوات نحو جذب الودائع الخارجية
بالنسبة للودائع الأجنبية، قال حصرية إن المباحثات مستمرة مع دول صديقة بهدف تأمين اتفاقيات تدعم استقرار الاحتياطيات النقدية وتعزز الثقة بالقطاع المصرفي السوري. وأضاف: “نأمل في أن تساهم هذه الخطوات في توفير الدعم المالي اللازم لتثبيت استقرار العملة وتمويل جهود إعادة الإعمار.”
وأكد أن رفع العقوبات سيسهل على سوريا الحصول على قروض ميسرة ودعم فني من مؤسسات التمويل الدولية، وهي عوامل حاسمة لتعزيز التنمية الاقتصادية.
تحديث التشريعات ومكافحة غسل الأموال
بجانب الإصلاحات الاقتصادية، تتجه سوريا إلى مراجعة شاملة لقوانين المصارف لتعزيز استقلالية البنك المركزي، وتحديث التشريعات لتشجيع تنويع أدوات التمويل الإسلامي، وتطوير الأطر القانونية للرقابة على المؤسسات المالية غير المصرفية.
وأشار حصرية إلى جهود مستمرة لتطبيق توصيات مجموعة العمل المالي “فاتف” بهدف تعزيز مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، بما في ذلك التعاون الدولي في تبادل المعلومات والتقارير المالية.
أهمية الشفافية وجذب السوريين في المهجر
يرى حصرية أن تعزيز بيئة استثمارية شفافة وحماية حقوق المستثمرين أمران أساسيان لجذب رؤوس الأموال، خاصة من السوريين في الخارج الذين يشكلون شريكًا رئيسيًا في إعادة بناء البلاد، إذ يحملون رأس المال والمهارات التي تحتاجها سوريا لتحقيق انتعاش اقتصادي حقيقي.
وقال: “مواردنا المحلية لن تكفي لإعادة الإعمار، ونحتاج إلى تدفقات رأسمالية من القطاعين العام والخاص، وهذا يتطلب بيئة استثمارية واضحة، شفافة، ومكافحة فعالة للفساد وغسل الأموال.”