بينما يزداد عدد الوفيات الناتجة عن الجوع في قطاع غزة يومًا بعد يوم، ويتصلب الرأي العام العالمي في إدانته للحصار والدمار، فإن أعلى هيئة قضائية دولية في العالم، محكمة العدل الدولية، لا تزال بعيدة عن إصدار حكم نهائي بشأن ما إذا كانت إسرائيل ترتكب جريمة الإبادة الجماعية في القطاع.
وفقًا لخبراء قانونيين ومصادر مطلعة، فإن الحكم المنتظر لن يصدر قبل عام 2027 على أقرب تقدير، وربما يمتد إلى 2028، ما يثير انتقادات حادة من أن التأخير يمنح غطاءً ضمنيًا للاستمرار في الانتهاكات، ويفشل في التصدي الفوري لحالة طوارئ إنسانية متفاقمة.
تمديد إضافي لإسرائيل
كان من المفترض أن تقدّم إسرائيل ردّها القانوني على التهم التي وجّهتها جنوب أفريقيا بشأن الإبادة الجماعية هذا الأسبوع. غير أن المحكمة قررت، بشكل مفاجئ، منحها مهلة إضافية مدتها ستة أشهر، لتصبح حتى يناير/كانون الثاني 2026. وقدّمت إسرائيل حججًا بأن “النطاق الغامض” للقضية وطبيعة الأدلة يتطلبان وقتًا أطول لإعداد الدفاع.
جنوب أفريقيا، من جهتها، رفضت هذه التبريرات، مؤكدة أن التأجيل غير مبرر في ظل الكارثة الإنسانية القائمة في غزة. ورغم ذلك، انحاز قضاة المحكمة الـ17 إلى طلب الجانب الإسرائيلي، ما أثار انتقادات بشأن تسييس المحكمة أو الإفراط في الحذر.
وقالت جولييت ماكنتاير، أستاذة القانون في جامعة جنوب أستراليا: “يبدو أن المحكمة تخشى إصدار حكم بالإدانة دون أن تُظهر التزامها الكامل بالمسار الإجرائي، رغم أن هذا يأتي على حساب أرواح المدنيين”.
وتيرة تقليدية بطيئة
منذ تأسيسها عام 1945، اتسمت محكمة العدل الدولية بالبطء في مداولاتها. وحتى بعد أن تقدم إسرائيل ردها في مطلع العام المقبل، من المرجّح أن تعطي المحكمة كل طرف فرصة إضافية للرد على النقاط الجديدة، وهي عملية قد تمتد لاثني عشر شهرًا إضافيًا. ويقول مايكل بيكر، أستاذ القانون الدولي في دبلن: “من الممكن نظريًا أن يصدر الحكم في أواخر 2027، ولكن أي تدخل من دول أخرى أو مستجدات إجرائية قد يؤجل الموعد إلى عام 2028”.
إجراءات مؤقتة… وتجاهل تام
رغم بطء الإجراءات، لم تقف المحكمة مكتوفة اليدين تمامًا. ففي ثلاث مناسبات خلال عام 2024، أصدرت المحكمة أوامر مؤقتة لإسرائيل، تطالبها باتخاذ خطوات فورية لوقف الأعمال ذات الطابع الإبادي والسماح بدخول المساعدات الإنسانية. لكن إسرائيل تجاهلت هذه الأوامر عمليًا، وواصلت حصارها وهجماتها، خاصة في رفح، دون أي عواقب تنفيذية.
ويقول منتقدون إن المحكمة، رغم امتلاكها سلطة أخلاقية، لا تمتلك آليات فعلية لفرض قراراتها، ما يضعف تأثيرها ويعزز ثقافة الإفلات من العقاب.
ضغط سياسي وعوائق دولية
أحد العوامل التي تساهم في تأجيل القضية هو التدخلات السياسية. ففي فبراير، أصدر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أمرًا تنفيذيًا بوقف المساعدات إلى جنوب أفريقيا، متهمًا حكومتها بـ”التحامل” على إسرائيل. وبحسب مصادر مطلعة على فريق الدفاع الجنوب أفريقي، فإن الضغوط الأمريكية لعبت دورًا في تقييد طلبات جنوب أفريقيا المتكررة لاتخاذ تدابير إضافية.
صرامة معايير الإثبات
جزء كبير من التأخير نابع من الطبيعة المعقدة لتهمة “الإبادة الجماعية” ذاتها. فوفقًا لاتفاقية 1948، تُعرف الإبادة الجماعية بأنها تدمير جماعة قومية أو دينية “كليًا أو جزئيًا”، لكنها تتطلب إثبات نية الدولة لارتكاب هذا التدمير عمدًا، وهي نية يجب إثباتها بـ”أدلة قاطعة لا لبس فيها”.
حتى الآن، لم تدن المحكمة أي دولة بالإبادة الجماعية بناء على هذا المعيار، رغم قضايا بارزة مثل ميانمار والروهينجا. وقد تكون تلك القضية، المتوقع النظر فيها مطلع 2026، بمثابة اختبار جديد لتخفيف معيار الإثبات الصارم، قبل النظر في ملف غزة.
هل الحكم المنتظر سيكون بلا جدوى؟
يخشى العديد من الخبراء أن يتحول انتظار حكم الإبادة الجماعية إلى ذريعة للتقاعس الدولي. يقول بيكر: “المشكلة في التركيز على كلمة إبادة جماعية هي أنها قد تخلق انطباعًا بأن أي جريمة أخرى دون هذا الوصف ليست خطيرة بما يكفي للتحرك، وهذا وهم خطير”.
ويضيف: “هناك جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب ترتكب بشكل يومي في غزة. لا يجب أن ننتظر ختم المحكمة لنعتبر أن هناك مأساة قانونية وأخلاقية تتطلب استجابة دولية فورية”.