بينما كانت القاعات الدبلوماسية تعج بالمفاوضات لإعادة النظام السوري إلى الجامعة العربية، كانت مجزرة مروعة تُنفّذ خلف جدران سجن صيدنايا سيّئ السمعة، كاشفةً عن حقيقة مرعبة تتناقض جذريًا مع محاولات إعادة تأهيل بشار الأسد سياسيًا.
ففي منتصف مارس/آذار 2023، وبينما كانت عواصم عربية وغربية تتحدث عن «إنهاء الحرب» و«تجميد النزاع» في سوريا، كان سجن صيدنايا يشهد واحدة من أكثر لياليه دموية، وفق شهادات معتقلين سابقين ومسؤولين منشقين.
يقول عبد المنعم القايد، المقاتل السابق في صفوف المعارضة، الذي اعتقل بعد أن سلّم نفسه ظنًا منه أنه مشمول بعفو رئاسي: «جمعوا 600 شخص وقتلوهم في ثلاثة أيام، حوالي 200 شخص كل ليلة».
كانت عمليات الإعدام شنقًا تحدث كل شهر تقريبًا في صيدنايا. ينادى الحراس بأسماء العشرات منتصف الليل، يلفّون الحبال حول أعناقهم، يسحبون الطاولات من تحت أقدامهم، فيصدر صوت احتكاك مريع يتردّد في الأرجاء، بينما كان السجناء في الزنازين المجاورة يسمعون أصوات الاختناق وأنين الضحايا حتى لفظ أنفاسهم الأخيرة.
لكن ما جرى في مارس/آذار 2023 كان أشبه بمجزرة جماعية أُريد منها «تنظيف السجن» قبل أن تبدأ دمشق في خطواتها الاستعراضية نحو تحسين صورتها أمام المجتمع الدولي.
آلة قتل منهجية
تصف التقارير أن سجن صيدنايا ليس مجرّد منشأة احتجاز، بل «مصنع موت» بامتياز. فمنذ بدء الثورة السورية عام 2011، تحوّل إلى غرفة عمليات لقتل آلاف المعتقلين، عبر التعذيب الممنهج، والإعدامات الجماعية، وظروف الاحتجاز القاسية التي أودت بحياة كثيرين دون أن تصدر بحقهم أحكام قضائية.
يقول ستيفن راب، السفير الأميركي السابق لشؤون جرائم الحرب: «إنها أسوأ فظاعة في القرن الحادي والعشرين من حيث عدد القتلى وطريقة تورّط الحكومة بشكل مباشر. أرى صلة مباشرة بينها وبين ما فعله النازيون أو السوفييت من تنظيم ممنهج للإرهاب الذي تمارسه الدولة».
كانت عمليات القتل في صيدنايا منظمة بدقة بيروقراطية. فقد احتفظت أجهزة الأمن السورية بسجلات تفصيلية توثق حركة المعتقلين، وقرارات محكمة الميدان العسكرية، وصولًا إلى شهادات الوفاة، ما جعل عمليات الإعدام أداة سياسية للترهيب أكثر من كونها عقابًا جنائيًا.
تلاعب سياسي بالموت
المثير أن مجزرة مارس 2023 تزامنت مع تغييرات سياسية لافتة. ففي وقت لاحق من ذلك العام، ألغى الأسد المحكمة الميدانية العسكرية، وخفّف بعض أحكام الإعدام، في خطوة اعتبرها محللون محاولة لتجميل وجه النظام قبل عودته إلى الجامعة العربية. لكن معتقلين سابقين يرون أن النظام ربما نفذ موجة قتل جماعي أخيرة قبل إبطاء آلة الموت بفعل هذه الإصلاحات الشكلية.
داخل جدران صيدنايا، كانت الحياة اليومية جحيمًا. زنازين ضيقة معدنية، تعج بالحشرات، لا تدخلها أشعة الشمس، وروائح الصرف الصحي تملأ المكان. الحراس يضربون المعتقلين بلا رحمة، ويمنعونهم من النظر في أعينهم أو التحدث بصوت مسموع، وأحيانًا كان يُجبر السجناء على شرب بولهم للبقاء أحياء.
قال علي أحمد الزوارة، وهو معتقل سابق أفرج عنه بعد سقوط النظام أواخر 2024: «كان صيدنايا كابوسًا. كان مجزرة مستمرة. معظم من دخلوا لم يخرجوا أحياء».
مقابر جماعية وشهادات مرعبة
لم يكن الموت في صيدنايا ينتهي عند حبل المشنقة. إذ كانت شاحنات التبريد تنقل الجثث ليلاً إلى مقابر جماعية، مثل مقبرة نجها جنوب دمشق، ثم إلى قُطيفة شمال العاصمة، حيث اتسعت مساحات المقابر بشكل هائل مع تصاعد أعداد الضحايا.
يقول محمد عفيف نايفه، موظف سابق في بلدية دمشق أُجبر على الإشراف على عمليات الدفن: «كانوا يأتون بجثث عليها آثار ضرب أو حبال حول العنق. كنت أدفنهم بلا أسئلة. كنت خائفًا على حياتي».
صور الأقمار الصناعية أظهرت اتساع مساحة مقابر قُطيفة من 19 ألف إلى 40 ألف متر مربع بين 2014 و2019، مما يؤكد حجم المجازر التي راح ضحيتها عشرات الآلاف.
مأساة المفقودين
تقول دينا قش، زوجة معتقل اختفى منذ عام 2013: «نعرف أنه أُرسل إلى صيدنايا، لكن لم نستلم جثمانه قط. نقول: يرحمه الله، لكننا دائمًا نُتبعها بعبارة: سواء كان حيًّا أو ميتًا».
بحسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان، لا يزال أكثر من 160 ألف سوري مختفين قسريًا، معظمهم على يد نظام الأسد.
اليوم، وبعد سقوط النظام، تواجه سوريا تحديًا هائلًا: هل ستُفتح ملفات هذه الجرائم؟ وهل ستُنبش المقابر الجماعية للعثور على المفقودين؟ أم ستُطوى هذه الصفحة السوداء تحت ضغط الحسابات السياسية؟
بينما تسعى الحكومة الجديدة في دمشق إلى تثبيت أركانها، يظل سجن صيدنايا شاهدًا مروعًا على واحدة من أبشع جرائم القرن الحادي والعشرين — تركة ثقيلة تهدد أي مصالحة وطنية حقيقية، وتذكّر العالم بأن دماء الأبرياء لا تُمحى بمجرد اتفاق سياسي.