في زمنٍ تتسم فيه التجارة العالمية بالفعل بعدم اليقين، جاءت الأحكام القضائية الأمريكية الأخيرة لتضيف طبقة جديدة من الغموض إلى مشهد تجاري يزداد تشظيًا وتقلّبًا. فحكم صادر عن محكمة التجارة الدولية بإلغاء عدد من الرسوم الجمركية الشاملة التي فرضها الرئيس دونالد ترامب، تبعه خلال أقل من 24 ساعة قرار معاكس من محكمة الاستئناف الفيدرالية بإبقاء هذه الرسوم سارية مؤقتًا، أحدث صدمة في أوساط الأعمال والحكومات على السواء.
قضاء غير مسبوق يُحدد مستقبل الرسوم
في سابقة تاريخية، أصبحت المحاكم الأمريكية تلعب دورًا حاسمًا في تحديد ملامح السياسة التجارية، بعد أن كانت لعقود من اختصاص السلطة التنفيذية. الحكم الأول مثّل ضربة كبيرة لنهج ترامب القائم على فرض رسوم واسعة دون مشاورات تشريعية أو تفاوضات دبلوماسية. لكن قرار الاستئناف اللاحق أعاد خلط الأوراق، معلنًا أن تلك الرسوم يمكن أن تبقى مؤقتًا حتى يتم النظر في الاعتراضات.
هذه التطورات تركت الشركات العالمية في حالة من الارتباك: هل تُسرّع عمليات الاستيراد قبل تطبيق حكم الإلغاء؟ أم تنتظر وتخاطر بفرض رسوم فجائية من جديد؟ يقول أحد مسؤولي الموانئ: “في يوم ما يكون من المنطقي الشحن، وفي اليوم التالي لا يكون الأمر كذلك”، وهي شهادة حية على هشاشة البيئة التجارية.
تهديد مباشر للاستثمار والتجارة
كتب برنارد ياروس، الخبير في أوكسفورد إيكونوميكس، في مذكرة تحليلية أن تصاعد تدخل المحاكم في ملفات الرسوم الجمركية “يُرسّخ مناخًا من عدم اليقين في السياسات التجارية، ويخنق الاستثمار التجاري والإنفاق الاستهلاكي على السلع المعمرة.”
ولا يقتصر التأثير على الولايات المتحدة وحدها. فالوفد التجاري الأوروبي الذي زار واشنطن هذا الأسبوع وجد نفسه في مأزق تفاوضي، بعدما أصبحت التعريفات التي أجبرتهم سابقًا على الجلوس إلى الطاولة، مهددة قانونيًا. بيرند لانغ، رئيس لجنة التجارة الدولية في البرلمان الأوروبي، عبّر صراحة عن الإحباط: “لا معنى للتفاوض بشأن تعريفات قد تُلغى لاحقًا بقرار قضائي.”
شلل تفاوضي وأثر مالي مباشر
المعضلة لا تقتصر على الغموض القانوني، بل تمتد إلى الأثر المالي المباشر. فمليارات الدولارات التي كانت تتدفق إلى خزينة الدولة من هذه الرسوم، وُضعت في موازين حسابات تمويل مشاريع الرئيس الأمريكي، لا سيما مشروع قانون الضرائب. الآن، تبدو هذه العائدات معرضة للتبخر، ما يهدد بتعميق العجز وزيادة الضغوط على الميزانية.
وعلى مستوى الشركات، أدى هذا الغموض إلى تغيّر جذري في السلوك التجاري. توقع خبراء أن نشهد موجة من “التحميل المسبق للمنشطات” — أي أن تقوم الشركات باستيراد كميات ضخمة من البضائع في فترة الإلغاء المؤقت، تحسبًا لعودة التعريفات لاحقًا. لكن هذا السلوك، إن حدث، قد يزيد من احتمالات الاختناقات في سلاسل التوريد، ويدفع نحو موجة تضخم جديدة.
ترامب والسياسة الجمركية… من جديد
في حين أن المحاكم سعت لتقييد سلطات ترامب في فرض رسوم دون ضوابط، إلا أن الحكم القضائي لم يغلق الباب نهائيًا. إذ ما تزال إدارة ترامب، أو أي إدارة لاحقة تسير على نهجه، قادرة على استخدام صلاحيات محددة — كقوانين الأمن القومي — لفرض رسوم جمركية على قطاعات مثل الصلب، الألمنيوم، والسيارات.
وزير التجارة هوارد لوتنيك، الذي أعاد تعيينه ترامب في حال فوزه مجددًا، لم يُخفِ نيّته: “نتحرك بزمن ترامب لتنفيذ ما يلزم.” وهذا يعني أن التهديد بفرض رسوم جمركية جديدة لم يتلاشَ، بل قد يُعاد استخدامه كورقة تفاوضية أو ضغط سياسية واقتصادية.
تجارة بلا بوصلة
تكشف هذه الفوضى القضائية عن أزمة أعمق في بنية الاقتصاد العالمي: انعدام الاستقرار في قواعد التجارة الدولية. فقد أصبحت سياسات الدول الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة، خاضعة لتقلبات قرارات المحاكم، وتغريدات مفاجئة على منصات مثل “تروث سوشيال”، بدلًا من أن تستند إلى أسس واضحة ومستمرة.
لا عجب إذًا أن مستثمرين ومشرّعين مثل بيرند لانغ أصبحوا يستفيقون قبل شروق الشمس “لمتابعة الأخبار القادمة من واشنطن”.
التجارة العالمية أصبحت رهينة المزاج السياسي والقضائي الأمريكي، ما يجعل التخطيط بعيد المدى شبه مستحيل.
والخلاصة أن التجارة العالمية دخلت عصرًا جديدًا من الشلل المنهجي. لم تعد قرارات الاستثمار أو التبادل السلعي تُبنى على اتفاقيات أو قواعد دبلوماسية، بل على مذكرات قضائية وقرارات استئناف، قد تنقلب بين ليلة وضحاها. وحتى يتضح المسار القانوني والسياسي للرسوم الجمركية الأمريكية، فإن حالة من الجمود والخوف ستبقى تهيمن على الاقتصاد العالمي بأسره.