أعلنت الحكومة السورية الجديدة عن إطلاق أكبر خطة استثمارية أجنبية في البلاد منذ أكثر من عقد، بقيمة إجمالية تبلغ 14 مليار دولار، في مسعى لتحديث البنية التحتية وتوسيع مشاريع النقل والمرافق الحضرية، في خطوة قال مراقبون إنها تمثل تحوّلًا جذريًا في الاقتصاد السوري بعد سنوات من الحرب والعقوبات.
وجاء الإعلان الرسمي خلال حفل توقيع أقيم في القصر الرئاسي في دمشق بحضور كبار المسؤولين السوريين وممثلين عن شركات ومستثمرين من دول عدة، أبرزها قطر والإمارات وتركيا.
توسعة مطار دمشق الدولي وبناء مترو في العاصمة
قال طلال الهلالي، رئيس هيئة الاستثمار السورية، خلال الحفل: “نعلن عن مجموعة من 12 مشروعًا استراتيجيًا كبيرًا بقيمة إجمالية تبلغ 14 مليار دولار… هذه المشاريع تمتد على كامل الأراضي السورية وتمثل نقلة نوعية في البنية التحتية والحياة الاقتصادية”.
وتشمل الخطة استثمارًا بقيمة 4 مليارات دولار لتوسعة وتحديث مطار دمشق الدولي، بشراكة مع شركة UCC القابضة القطرية، والتي ستنفذ المشروع إلى جانب مجموعتي جنكيز وكاليون التركيتين، وفق ما أكده الهلالي والمبعوث الأمريكي الخاص إلى سوريا، توم باراك.
أما المشروع الأبرز، فهو إعادة إحياء خطة بناء مترو أنفاق في دمشق، بتكلفة تقديرية تبلغ 2 مليار دولار، بعد أن كانت هذه الخطة قد جُمّدت لعقود بسبب الصراعات وعدم الاستقرار. وأكد كل من وزير النقل السوري يعرب بدر ومحافظ دمشق ماهر مروان أن المشروع يأتي نتيجة مفاوضات مباشرة مع مؤسسة الاستثمار الوطنية الإماراتية.
دعم دولي وإقليمي متزايد
حضر الحفل عدد من الشخصيات البارزة، من بينهم الرئيس السوري أحمد الشرع والمبعوث الأمريكي توم باراك، الذي وصف الحدث بأنه “إنجاز عظيم آخر لسوريا وشركائها”، مضيفًا: “الطريق إلى التعافي يبدأ ببناء الأمن، ثم الأنظمة، ثم الاقتصاد… مستقبل سوريا المزدهرة والمسالمة هو في أيدي شعبها وشركائها”.
ويأتي الإعلان بعد أشهر فقط من رفع إدارة ترامب للعقوبات الأمريكية المفروضة على سوريا في عهد النظام السابق، وهو ما فتح الباب أمام تدفقات جديدة من الاستثمارات، لا سيما من دول الخليج العربي. تبع ذلك لاحقًا رفع تدريجي للعقوبات الأوروبية، مما عزز مناخ الثقة لدى الشركات الأجنبية.
مشاريع موقعة سابقًا
تأتي هذه الحزمة الاستثمارية في سياق تحركات دبلوماسية واقتصادية نشطة بين سوريا وعدد من الدول العربية والإقليمية خلال الأشهر الأخيرة. ومن أبرزها:
السعودية وقّعت اتفاقيات استثمارية بقيمة 6.4 مليار دولار في يوليو.
شركة موانئ دبي العالمية الإماراتية أبرمت صفقة بـ800 مليون دولار لتطوير ميناء طرطوس.
اتحاد شركات قطرية وتركية وأمريكية وقع صفقة طاقة بـ7 مليارات دولار في مايو الماضي.
وتسعى الحكومة السورية من خلال هذه الصفقات إلى إعادة بناء القطاعات الحيوية مثل الطاقة والنقل والموانئ، وتوفير عشرات الآلاف من فرص العمل، وتنشيط عجلة الاقتصاد المنهك.
خطة غير مسبوقة وسط تقديرات دولية ضخمة
بحسب تقديرات الأمم المتحدة، فإن تكلفة إعادة إعمار سوريا بعد أكثر من عقد من الحرب قد تتجاوز 400 مليار دولار، وهي تكلفة ضخمة تتطلب دعمًا واسعًا من شركاء دوليين وإقليميين. ويُنظر إلى هذه الخطة الجديدة على أنها أول محاولة عملية لتقليص هذه الفجوة التمويلية الضخمة.
وقال الهلالي إن “رسالة اليوم واضحة: سوريا منفتحة على الاستثمار، عازمة على بناء مستقبل مزدهر، ومستعدة للعمل جنبًا إلى جنب مع شركائنا الموثوق بهم لكتابة فصل جديد من التقدم والتنمية”.
دلالات سياسية واقتصادية
يرى محللون أن الإعلان عن هذه الخطة يعكس تبلور مرحلة جديدة من الانفتاح السياسي والاقتصادي في المنطقة، حيث تلعب كل من قطر والإمارات وتركيا دورًا محوريًا في إعادة صياغة المشهد الإقليمي من خلال مشاريع تنموية عابرة للحدود.
كما أن الوجود الأمريكي في حفل التوقيع، عبر مبعوث البيت الأبيض، يُعد تطورًا غير مسبوق منذ اندلاع النزاع السوري، ويمثل رسالة دعم ضمنية لمسار إعادة الإعمار والتطبيع الاقتصادي، رغم استمرار بعض التحفظات السياسية.
وبالتزامن مع حفل التوقيع، يقوم وفد أعمال سوري بزيارة رسمية إلى تركيا لبحث آفاق التعاون التجاري والاستثماري، في مؤشر إضافي على توسع العلاقات الاقتصادية بين الجانبين، خصوصًا في مجالات البناء والطاقة والنقل.
مستقبل واعد أم تحديات قادمة؟
رغم أن الخطة تمثل بارقة أمل للاقتصاد السوري، إلا أن تحديات كبيرة لا تزال قائمة، من بينها إعادة تأهيل البنية التحتية المدمرة، وضمان الشفافية في تنفيذ المشاريع، وجذب رؤوس الأموال في بيئة ما بعد الحرب.
ومع ذلك، يرى كثيرون أن حجم الصفقات ونوعية الشركاء الإقليميين يعطيان انطباعًا بأن سوريا تستعد لمرحلة جديدة، ليس فقط على مستوى الإعمار، بل أيضًا على مستوى إعادة دمجها في النظام الاقتصادي الإقليمي والدولي.