يمثل سقوط دمشق الشهر الماضي تحولًا ذا أبعاد تاريخية، فبعد أن كانت سوريا يومًا مركزًا لإعادة تأكيد روسيا لمكانتها على الساحة العالمية، أصبحت الآن مثالًا واضحًا على هشاشة التحالفات القائمة على الإكراه والمصالح المؤقتة.
لم يستطع بشار الأسد، الذي اعتمد لسنوات طويلة على القوة الجوية الروسية والمرتزقة والدعاية، الصمود أمام ثقل المعارضة الداخلية وإعادة الحسابات الخارجية.
ولا يُعتبر هذا الانهيار مجرد انتكاسة بالنسبة لموسكو، بل فرصة للتكيف—وهو جهد بدأ بالفعل مع تحرك قواتها ومعداتها جنوبًا في البحر الأبيض المتوسط.
يشير نقل روسيا للقوات والمعدات إلى شرق ليبيا إلى إعادة تقييم استراتيجي، حيث ينتظر قائد الجيش الوطني الليبي، خليفة حفتر، في برقة مترقبًا ومتأهبًا، حيث تتجه الأنظار كلها إليه مع تقرب الدول الغربية من أفراد عائلته لثنيهم عن تمكين التحرك البحري الروسي في البحر المتوسط.
هذا المشهد المتغير—من أنقاض دمشق الأسد إلى ليبيا المتنازع عليها لحفتر—يكشف عن منطق أعمق في السياسة الخارجية الروسية.
الأمر لا يتعلق باستبدال وكيل بآخر، بل بالاستمرارية، فقد كانت عمليات موسكو في سوريا تقوم على مقاومة التوسع الغربي وتحقيق مكاسب ملموسة، وعندما حلقت الطائرات الروسية من قاعدة حميميم الجوية إلى ليبيا في عام 2019 لدعم هجوم حفتر على طرابلس، كان ذلك بروفة هادئة للتحول الاستراتيجي الأوسع اليوم.
هذا الطموح في البحر المتوسط ليس جديدًا؛ بل يعود إلى القرن الثامن عشر عندما أنشأت روسيا أسطولها البحري في البحر المتوسط لتحدي الهيمنة العثمانية وإبراز قوتها.
قد يتطور دور موسكو في سوريا بدلاً من أن يختفي، إلا أن الديناميكيات المتغيرة المحيطة باستخدامها كنقطة انطلاق نحو إفريقيا تؤكد أهمية ليبيا، ليس كخيار بديل بل كجزء من استراتيجية طويلة الأمد لتوسيع النفوذ الروسي في المنطقة وإبراز قوته إلى ما وراءها.
قبضة موسكو التي تتشدد مع الوقت
تُبرز رؤية الكرملين لحفتر كـ”نمر من ورق” غير موثوق به عدم التوازن في علاقتهما حيث يصور حفتر نفسه كمنقذ لليبيا، ولكن روسيا تراه أداة لتحقيق طموحات أوسع.
انسحب مرتزقة فاغنر تكتيكيًا خلال الهجوم الفاشل الذي شنه حفتر على طرابلس في عام 2019 بدعم ضمني من الولايات المتحدة، ما عرض قوات حفتر لهزائم مذلة وانسحابات فوضوية.
لم يكن انتصار حفتر أولوية للمرتزقة، بل تأمين الأصول الاستراتيجية الروسية، وقد عمقت موسكو اعتماد حفتر عليها من خلال ترسيخ وجودها في قواعد ليبية رئيسية، في الوقت الذي عززت فيه موطئ قدمها طويل الأمد في هذا البلد.
بلغ اعتماد حفتر على موسكو مستويات جديدة بعد هزيمته في طرابلس عام 2020، فمع نفاد الموارد المالية وفقدان الزخم، لجأ إلى القدرات العسكرية المتقدمة لفاغنر للحفاظ على مكانته، وأصبحت مقاتلات “ميغ” التابعة لفاغنر المتمركزة في قاعدة الجفرة الجوية والقوات في قاعدة القرضابية الجوية شريان حياة للجيش الوطني الليبي.
ومكّنته فكرة الاحتفاظ بدعم قوة عالمية من إعادة تجميع قواته، وقمع المعارضة، وفرض الولاء داخل صفوفه المتشرذمة من خلال حملات تطهير وإعادة هيكلة.
هذا التماسك مهد الطريق لخطط توريث داخل عائلة حفتر، ومع ذلك، فإن الاعتماد على الدعم الروسي في فترة الضعف يبرز هشاشة قوة حفتر، حيث يخفي الاعتماد على الدعم الأجنبي نقاط الضعف الداخلية.
سعى أبناء حفتر منذ ذلك الحين إلى بناء علاقات مع عواصم أجنبية عدة، بما في ذلك موسكو، مستغلين هذه الروابط لتعزيز مكانة العائلة.
ويعكس هذا النهج نظام الحكم الوراثي للأسد ويبرز الدور الحاسم للدعم الخارجي في استدامة مثل هذه الأنظمة.
يهدف تركيز السلطة داخل الأسرة إلى ترسيخ النفوذ، لكنه يزعزع التوازن الدقيق بين التحالفات القبلية والميليشياوية التي تقوم عليها سلطة حفتر.
لقد ساعدت العائدات المالية غير المقيدة حتى الآن في الحفاظ على الولاء، إلا ان الاعتماد على الداعمين الخارجيين يعكس الهشاشة التي ميزت سنوات الأسد الأخيرة، حيث أدى الانعزال المتزايد والاعتماد على موسكو إلى تآكل تحالفاته الأوسع.
وتتقاطع هذه التشابهات مع ما حدث مع الديكتاتور الليبي الراحل معمر القذافي، الذي قادت عزلته داخل دائرته المقربة وسوء حساباته إلى انشقاقات جماعية في أوج نظامه، وفي كلا الحالتين، تحولت التصورات عن القوة الحتمية إلى مظاهر هشاشة—وهو تحذير لمسار ليبيا الحالي.
وفي الوقت الذي تعمل فيه عائلة حفتر على تعزيز سلطتها الداخلية، زادت أيضًا من اعتمادها على داعمين خارجيين مثل موسكو، وتصاعد هذا الاعتماد في عامي 2023 و2024، حيث سهّلت عائلة حفتر التهرب من العقوبات الغربية المفروضة على روسيا من خلال إعادة تصدير المنتجات النفطية الروسية المكررة تحت تصنيف مزيف بأنها ليبية.
واستند هذا المخطط إلى نفوذ حفتر على المؤسسة الوطنية للنفط (NOC)، وهي مؤسسة سيادية أضعفتها الانقسامات الداخلية والتدخلات الخارجية.
لقد حولت عائلة حفتر المؤسسة الوطنية للنفط إلى أداة للسيطرة الفئوية والكسب غير المشروع بالتعاون مع الحكومة التي تتخذ من طرابلس مقرًا لها، وعكست صفقة توسطت فيها الإمارات عام 2022 وبدعم أمريكي لتغيير رئيس المؤسسة الوطنية للنفط سوء تقديرات واشنطن بأن تقاسم المنافع الاقتصادية بين حفتر ونظرائه في طرابلس يمكن أن يعزز الاستقرار، لكن الاتفاق سمح لحفتر باستغلال المؤسسة الوطنية للنفط لأنشطة تتماشى مع الكرملين ولأغراض شخصية، مما أدى إلى تفاقم الفساد وزيادة هشاشة المؤسسات الليبية.
يبرز النفوذ الروسي المتزايد على عمليات عائلة حفتر دوره كوسيط رئيسي لبقاء هذه السلالة السياسية، وتمتلك روسيا نفوذًا كبيرًا على مستقبل الجيش الوطني الليبي من خلال السيطرة على الأصول العسكرية والشبكات اللوجستية الحاسمة، ويسلط هذا الاعتماد الضوء على مفارقة طموحات حفتر: إذ أن تعزيز السلطة عبر الروابط العائلية يجعله أكثر ارتباطًا بموسكو، التي يمكنها إعادة ضبط دعمها بناءً على مصالحها الاستراتيجية الأوسع.
وزادت عائلة حفتر – من خلال سعيها لتحقيق الاستمرارية العائلية – من قبضة روسيا على ليبيا، محولة طموح الاستقلال إلى طبقة أخرى من الاعتماد على الخارج.
دروس للغرب
تكمن حماقة تعامل الغرب مع حفتر في المبالغة في تقدير نفوذه.
تفترض واشنطن أن حفتر يمكنه مواجهة موسكو، متجاهلة اعتماده الجوهري على الداعمين الخارجيين.
حتى حلفاؤه، مثل الإمارات ومصر، ينظرون إليه الآن بمنظور أكثر براغماتية، ويدعمونه فقط طالما أنه يخدم مصالحهم.
بالنسبة لروسيا، تكمن فائدة حفتر في اعتماده عليها، وليس ولائه، وتعتمد قواته على الجسر الجوي الروسي، وخبرات مجموعة فاغنر المعاد تشكيلها (التي تعمل الآن تحت اسم “فيلق إفريقيا”)، والقوة الناعمة لموسكو، وإذا تم تجريد حفتر من الدعم العسكري الروسي، فإن قوته المبالغ فيها على الأرض ستنهار—وهمٌ يذكرنا بالثقة الخاطئة في حتمية الأسد.
إذا أراد الغرب مواجهة موسكو بفعالية، فعليه التخلي عن محاولاته التفاعلية “لتجريد” الشخصيات المؤثرة من قبضة روسيا والاعتراف بحدود نفوذه في منطقة لطالما تفوقت فيها موسكو عليه. بدلًا من السعي وراء تحالفات عابرة مع شخصيات مثل حفتر، يجب على الغرب التركيز على معالجة نقاط الضعف الهيكلية التي تجعل ليبيا عرضة للاستغلال الخارجي.
وبالمثل، فإن الدعم غير المشروط لحكومة ضعيفة وفاسدة في طرابلس يقوض سيادة البلاد، مما يخلق فراغات إضافية يمكن لجهات فاعلة مثل روسيا استغلالها. تعزيز الحكم، وتطوير المرونة الاقتصادية، ودعم الحلول السياسية الشاملة هي أولويات لا غنى عنها.
على وجه الخصوص، ينبغي على الولايات المتحدة العمل مع الشركاء الدوليين لدعم المؤسسات القضائية والرقابية المالية في ليبيا، مما يعزز المساءلة ويقلل من فرص الاستغلال من قبل الفاعلين الأجانب.
سواء نجحت روسيا في محاولتها للتموضع في البحر الأبيض المتوسط أم لا، فإن الدرس المستفاد للغرب واضح ومفاده ان محاولة اللحاق في لعبة خاسرة بالفعل لا تخدم أحدًا.
تؤكد الإخفاقات في كل من سوريا وليبيا مخاطر تجاهل التدخل المبكر والاستراتيجية المتماسكة، ولتجنب تكرار هذه الأخطاء، يجب على الغرب أن يتعلم التصرف بحسم، وإعطاء الأولوية للاستقرار على الانتهازية.
هذه ليست مجرد قضية إقليمية، بل رمز لصراع أوسع حول المبادئ التي ستحدد النظام العالمي في السنوات القادمة.