في قلب العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، يجتمع تحديان جيوسياسيان كبيران يتشابكان بشكل متشابك وخطير: الصراع مع الصين، والهيمنة في مجال الذكاء الاصطناعي. يشكل هذان الموضوعان محور صراع دولي محتدم، حيث تبدو الولايات المتحدة أمام مفترق طرق حاسم: إما الحفاظ على تفوقها الاقتصادي والتكنولوجي، أو مواجهة هيمنة صينية متزايدة قد تغيّر خريطة القوة العالمية بشكل جذري.
تجمع هذه القضايا بين قادة أمريكيين من خلفيات سياسية مختلفة، إذ يتفق كل من الرئيس السابق دونالد ترامب والرئيس الحالي جو بايدن على أن التحدي الصيني في مجال الذكاء الاصطناعي يشكل تهديدًا وجوديًا للولايات المتحدة، ورؤية الجميع أن المنافسة مع بكين في هذا المجال حاسمة لمستقبل الاقتصاد والأمن القومي الأمريكي.
في الواقع، يرى العديد من المختصين أن الذكاء الاصطناعي سيكون مفتاح الحروب المستقبلية، حيث تعتمد جيوش الغد على طائرات بدون طيار وروبوتات مدعومة بقدرات تكنولوجية متقدمة. لذا، فإن الحفاظ على التفوق الأمريكي في هذه التقنيات ليس فقط مسألة اقتصادية، بل هي أيضًا عامل حاسم في ضمان الأمن القومي.
لكن هذا المسار المليء بالتحديات يتعارض مع السياسات التي انتهجها ترامب في التجارة والعلاقات الدولية. إذ على الرغم من تركيزه القوي على مواجهة الصين، فإن سياساته قصيرة المدى، التي تضمنت فرض رسوم جمركية عالية وإهانة الحلفاء التقليديين، قد أضرت أكثر مما أفادت، مخلفة مخاطر جدية على المدى الطويل.
لفهم هذه المخاطر، يجب إدراك أن الصين تعتمد استراتيجية متكاملة تعتمد على الاستبداد والتخطيط المركزي لاستخلاص أسرار التكنولوجيا الأمريكية بطرق متعددة، منها الضغط على الشركات الأمريكية العاملة داخل أراضيها لإقامة شراكات مع شركات محلية مدعومة من الدولة. كما أن الصين تجمع بين وجود طاقات بشرية هائلة، إرادة سياسية حازمة، واستثمارات ضخمة طويلة الأجل في قطاع التكنولوجيا.
وعلى الرغم من أن الصين لا تمتلك حاليًا أحدث التقنيات المتقدمة، إلا أن هدفها هو الوصول إلى تفوق حاسم في مجال الذكاء الاصطناعي. النجاح في هذا الهدف يمكن أن يؤدي إلى تراجع الهيمنة الاقتصادية والعسكرية للولايات المتحدة، وحتى تهديد أنماط الحكم الديمقراطي الليبرالي في العالم.
تُستخدم التكنولوجيا التي تحصل عليها الصين في تعزيز صناعاتها الحيوية مثل السيارات ذاتية القيادة، والطائرات بدون طيار، والطاقة النظيفة، وغيرها من المنتجات المدعومة بالذكاء الاصطناعي، التي تصدرها إلى الأسواق العالمية بأسعار منخفضة تنافسية، ما يعزز من موقعها التجاري ويجمع بيانات قيمة يمكن استغلالها لأغراض تجسسية أو أمنية.
في مواجهة هذا التحدي، ردت الولايات المتحدة عبر سياسات فرضت رسومًا جمركية على منتجات صينية، وفرض ضوابط على تصدير بعض التقنيات الحساسة، مثل رقائق الكمبيوتر المتطورة. ورغم أن هذه الإجراءات تهدف إلى الحد من قدرة الصين على التقدم في مجالات الذكاء الاصطناعي، فإن لها آثارًا جانبية كبيرة.
فشركات أمريكية رائدة مثل “إنفيديا”، المتخصصة في صناعة رقائق الحوسبة المتقدمة، تواجه خسائر مبيعات ضخمة نتيجة هذه السياسات، كما أن الولايات المتحدة تفقد السيطرة تدريجيًا على سلاسل التوريد التي تعتبر حيوية لتطوير الذكاء الاصطناعي.
وفي هذا السياق، وصف رئيس “إنفيديا” ضوابط التصدير بأنها “فشل”، معتبراً أن هذه الإجراءات لم تفعل سوى دفع الصين إلى تسريع تطوير صناعتها الخاصة بعيدًا عن الاعتماد على التكنولوجيا الأمريكية.
لمواجهة هذه المخاطر، يرى بعض الخبراء ضرورة توسيع الأسواق الأمريكية لتشمل شراكات استراتيجية أكبر مع دول أخرى، وإنشاء تحالفات اقتصادية تشمل أمريكا الشمالية وأوروبا والشرق الأوسط والهند، لخلق سوق شاملة تتجاوز السوق الصينية.
لكن في الوقت ذاته، تواصل السياسات التجارية والتوترات التي أطلقها ترامب تعقيد المشهد. فقد أدت سياساته الحادة تجاه حلفاء الولايات المتحدة مثل كندا وأوروبا إلى إبعادهم عن واشنطن، مما يضعف فرص تشكيل جبهة موحدة قوية ضد الصين في السباق التكنولوجي.
على سبيل المثال، يوجه ترامب انتقادات لاذعة إلى أوروبا ويصفها بأنها ضعيفة وغير جديرة بالثقة، ما يدفع حلفاء تقليديين إلى البحث عن تحالفات أخرى، بعضها مع الصين نفسها.
في الوقت ذاته، يحاول ترامب تعزيز علاقاته مع دول الشرق الأوسط الغنية بالموارد، التي تبدو في بعض الأحيان محايدة بين واشنطن وبكين، مما يضيف طبقة أخرى من التعقيد إلى الديناميكية الجيوسياسية.
تعتمد الاستراتيجيات الأمريكية لفرض ضوابط على التصدير وتقييد وصول الصين إلى تقنيات الذكاء الاصطناعي المتقدمة على تعاون دول مهمة مثل اليابان وهولندا وكوريا الجنوبية وتايوان، التي تنتج أجزاءً حساسة في هذه الصناعة. لكن السياسات التجارية والعدائية التي تتبعها الإدارة الأميركية أضعفت هذا التعاون، وأعطت تلك الدول أسبابًا لإعادة النظر في التزامها.
في الجانب العملي، شهدت العلاقات التجارية بين الولايات المتحدة والصين تذبذبات حادة. فرض ترامب رسومًا جمركية ضخمة بلغت في بعض الحالات 145% على بضائع صينية، لكنه خفّض هذه الرسوم في بعض الأحيان وأعاد فتح قنوات المفاوضات، ليعود بعدها إلى لهجة تصعيدية في سياق المنافسة المستمرة.
وفي الوقت نفسه، تواصل الصين استثمارها المكثف في مجالات متقدمة مثل الحوسبة الكمومية، والبطاريات، والطائرات بدون طيار، بينما تحتكر موردًا استراتيجيًا مهمًا هو المعادن الأرضية النادرة، التي تعتمد عليها الصناعات الأمريكية بشدة.
يُحذر بعض الخبراء، مثل رئيس أحد البنوك الاستثمارية الكبرى، من أن المشاكل الداخلية في الولايات المتحدة، سواء على مستوى السياسة أو الاقتصاد أو المجتمع، تجعل البلاد غير جاهزة للمواجهة الحقيقية على المسرح الدولي.
ومع ذلك، يرى بعض مستشاري الإدارة الأمريكية أن استراتيجية ترامب في موضوع الذكاء الاصطناعي أكثر تعقيدًا مما تبدو عليه من الخارج. حيث يعتقد ترامب أنه سيتمكن في نهاية المطاف من تشكيل تحالف تجاري قوي وواسع من دول مستعدة للعمل مع أمريكا بشروط أفضل لمنافسة الصين.
كما يرى أن استراتيجيته ستجبر بعض الدول الغنية بالموارد، مثل كندا وأوكرانيا وغيرها، على مشاركة مواردها، مما سيؤدي إلى خلق وظائف أفضل للأمريكيين في هذا الاقتصاد الجديد القائم على الذكاء الاصطناعي.
ويضع ترامب رهانه على قدرة الولايات المتحدة في مجال الذكاء الاصطناعي لجذب المزيد من الدول إلى منظومة اقتصادية وسياسية تهيمن عليها واشنطن، ويعمل على تشجيع الاستثمارات في بنية تحتية متطورة تضمن استمرار التقدم الأمريكي، مثل مشاريع متقدمة في شركات الذكاء الاصطناعي الكبرى.
في نهاية المطاف، يبقى التحدي الأكبر أمام الولايات المتحدة هو كيف يمكنها أن تواجه الصين في سباق الذكاء الاصطناعي، وسط بيئة داخلية مضطربة وتحالفات دولية مهتزة، مع ضرورة التوازن بين تحقيق مصالح قصيرة الأمد والحفاظ على مراكز القوة الاقتصادية والتكنولوجية على المدى الطويل.