تواصل فرق الإطفاء السورية معركتها المستميتة لإخماد حرائق غير مسبوقة اجتاحت الساحل السوري لأكثر من عشرة أيام، في مشهد كارثي حوّل سماء اللاذقية إلى لوحات برتقالية كثيفة بالدخان والرماد، فيما يعوق خطر الألغام الأرضية الجهود الرامية للسيطرة على ألسنة اللهب المشتعلة.
في قسطل معاف، إحدى القرى المنكوبة بمحافظة اللاذقية، علت صيحات رجال الإطفاء مع اتساع رقعة الحريق، إذ صرخ أحدهم قائلاً: “لقد خرج الأمر عن السيطرة”، بينما كانت النيران تزحف بسرعة على امتداد الوادي الأخضر.
وتعيش المنطقة الساحلية السورية على وقع كارثة بيئية غير مسبوقة، إذ أتت الحرائق حتى الآن على أكثر من 15 ألف هكتار من الأراضي الزراعية والغابات، أي ما يعادل مساحة تفوق مدينة باريس. وتعزو السلطات الكارثة إلى موجة جفاف هي الأسوأ منذ عقود، ترافقت مع ارتفاع درجات الحرارة وجفاف التربة.
رغم جهود الدفاع المدني السوري المدعومة بآليات إطفاء أرسلتها دول مجاورة مثل تركيا، اتسع نطاق الحريق يوم الجمعة الماضي، لتأمر فرق الإنقاذ المدنيين بإخلاء المنطقة على الفور.
قال آدم عبد المولى، المنسق المقيم للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في سوريا، إن الحرائق خلّفت “عواقب وخيمة على المجتمعات المحلية وتتطلب تدخلاً عاجلاً”، معلنًا تخصيص الأمم المتحدة مبلغ 625 ألف دولار لدعم الاستجابة الطارئة.
إرث الحرب يطارد رجال الإطفاء
إلا أن معركة إخماد النيران تتعقد أكثر بسبب إرث الحرب السورية. فقد حوّلت سنوات القتال مناطق واسعة من محافظة اللاذقية إلى حقول ألغام وذخائر غير منفجرة، الأمر الذي يضع فرق الإطفاء في مواجهة خطر داهم أثناء تقدمهم عبر الغابات.
قال أسامة أسود، أحد عناصر الخوذ البيضاء، لصحيفة “ذا ناشيونال”: “التحديات واضحة. الطرق جبلية ووعرة. اضطررنا لشق مسارات بسلاسل حديدية للوصول إلى الوديان المشتعلة.”
وأضاف تركي ساحل، عنصر في الدفاع المدني، مشيرًا إلى قمة جبلية تلتهمها النيران: “هناك ألغام أرضية هنا. لا نستطيع الصعود إلى الأعلى. لو كانت الأرض خالية، لكنا دخلنا.”
وخلال عمليات الإطفاء، اعتاد رجال الإنقاذ على سماع دوي انفجارات الألغام التي تفجرها الحرارة الشديدة، ما يضيف مشهداً مروعاً فوق أزيز ألسنة اللهب.
سباق مع الزمن في ظروف مأساوية
في خضم هذا الجحيم، لا وقت للراحة. إذ يقضي رجال الإطفاء أيامهم في معركة لا تتوقف، ينامون بالكاد ساعتين أو ثلاث ساعات على الأرض في محطات استراحة مؤقتة.
قال رواد طوبجي، متطوع في الخوذ البيضاء منذ عام 2016: “لا يمكنك الراحة هنا. العمل مستمر بلا توقف. لا أحد يعلم متى قد تشتعل الأمور من جديد.”
وتعاني فرق الدفاع المدني من نقص المعدات وغياب الإمدادات الأساسية مثل الوقود وخراطيم المياه وقطع الغيار، وسط أزمة اقتصادية خانقة تضرب سوريا، إذ دمرت الحرب والمؤسسات وأثقلت كاهلها العقوبات الغربية.
صرح رائد صالح، وزير إدارة الكوارث والاستجابة لحالات الطوارئ السوري، لصحيفة “ذا ناشيونال”: “تركز جهودنا على توفير الدعم اللوجستي: الديزل، المعدات الهندسية، والجرافات.”
دعم إقليمي وتضامن شعبي
رغم الصعوبات، تلقت سوريا دعماً من دول إقليمية مثل تركيا، لبنان، العراق، والأردن. كما تحرك متطوعون من منظمات بيئية لبنانية للمشاركة في إخماد الحرائق.
قال عثمان طالب من منظمة “درب عكار” البيئية اللبنانية: “سوريا ولبنان شعب واحد. غاباتهم غاباتنا، وشعبهم شعبنا.”
بينما استمر الدخان الكثيف في حجب الأفق يوم السبت، أعلنت السلطات عن اندلاع حرائق جديدة في محافظة حماة وسط البلاد، ما ينذر بموسم حرائق مدمر يترك أثراً بيئياً واقتصادياً طويل الأمد على بلد أنهكته الحرب وأحرقته ألسنة اللهب.