بينما يواصل الرئيس الأميركي دونالد ترامب تردده في تصعيد الدعم العسكري المباشر لأوكرانيا، تمكنت العواصم الأوروبية، بجرعة كبيرة من الواقعية السياسية، من إيجاد صيغة تحفظ ماء وجه ترامب وتضمن في الوقت ذاته استمرار تدفق السلاح إلى كييف.
وفي تحول لافت، أعلن ترامب مؤخرًا أنّ الولايات المتحدة ستتيح للدول الأوروبية شراء الأسلحة الأميركية مباشرة لتسليمها إلى أوكرانيا، مع تولّي حلف شمال الأطلسي (الناتو) تنسيق عمليات النقل.
وجاء الإعلان بعد أسابيع من جهود دبلوماسية أوروبية مكثفة، ولاسيما من جانب ألمانيا، لإقناع ترامب بخطوة قد تبدو في ظاهرها كتنازل، لكنها في الحقيقة تضمن استمرار الدعم العسكري الأهم لأوكرانيا.
من التمنّي إلى البراغماتية
يقول مراقبون إن القادة الأوروبيين تخلّوا عن أمنياتهم بانتخاب رئيس أميركي آخر أكثر حماسة لمواجهة موسكو، وركّزوا بدلًا من ذلك على كيفية التعامل مع ترامب كما هو.
ويؤكد مسؤولون في برلين أنّ الاتفاق الأخير كان في جوهره مبادرة ألمانية، إذ رأت المستشارية الألمانية بقيادة فريدريش ميرز في «خيبة أمل ترامب» المتزايدة من بوتين فرصة سانحة لفتح باب جديد لمساعدة أوكرانيا دون إحراج ترامب أمام قاعدته السياسية الداخلية.
وخلال زيارة إلى برلين الأسبوع الماضي، أعلن الأمين العام لحلف الناتو، مارك روته، أن ألمانيا «تستثمر بشكل كبير» في الخطة. وفي اجتماعات مغلقة، صرّح مسؤولون ألمان بأن الفكرة برمتها نضجت في العاصمة الألمانية، بدافع الحاجة الماسة إلى تعزيز دفاعات أوكرانيا في ظل التصعيد الروسي الأخير.
قال ميرز: «نحن نفعل هذا لمصلحتنا الخاصة. سيساعد ذلك أوكرانيا في الدفاع عن نفسها ضد حملة القصف الروسية، كما أنه يوجه رسالة بأننا نسير في نفس الاتجاه مع شركائنا الأمنيين».
صيغة مربحة لترامب
بالنسبة لترامب، الذي يرى السياسة الخارجية من منظور الصفقات والمعاملات الاقتصادية، بدا الحل مثاليًا.
فمن جهة، يظل بإمكانه الادعاء بعدم دفع أموال دافعي الضرائب الأميركيين مباشرة في حرب قد لا تحظى بشعبية واسعة، خصوصًا في صفوف جناحه الانعزالي. ومن جهة أخرى، تتيح له الصفقات العسكرية جني أرباح اقتصادية وتعزيز صناعة الدفاع الأميركية.
وقال مسؤول حكومي ألماني مطّلع على تفاصيل المحادثات إن هذه الصيغة «تمكّن الإدارة الأميركية من دعم أوكرانيا دون أن تبدو وكأنها تتصدر المواجهة مع روسيا، مع ترك الأوروبيين في الواجهة».
وأضاف أنّ هذا النهج يمنح ترامب «مسافة سياسية» تبقيه متحفظًا أمام الناخبين الذين لا يرغبون في تورط أميركي مباشر في الصراع.
انقسامات أوروبية كامنة
رغم الحماسة الأوروبية الظاهرة، لا تزال هناك خلافات في المواقف. فقد أشار روته في تصريحات له من المكتب البيضاوي إلى دعم أربع دول شمالية، إضافة إلى بريطانيا وهولندا، للخطة الجديدة.
لكن فرنسا غابت عن القائمة بشكل لافت. ويعود السبب إلى إصرار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على تعزيز الصناعات الدفاعية الأوروبية وتقليل الاعتماد على الواردات العسكرية، ولا سيما الأميركية منها.
وأكد مسؤولون فرنسيون أنّ باريس لن تنضم إلى مبادرة شراء الأسلحة الأميركية، في ظل ضغط متزايد لتقليص العجز المالي الفرنسي والحد من الإنفاق الدفاعي.
لكنّ مسؤولين ألمان يرون أنّ الواقع يفرض خيارات محدودة، إذ تفتقر أوروبا حاليًا إلى قدرات صناعية كافية لتلبية احتياجات أوكرانيا من الأسلحة النوعية، مثل أنظمة الدفاع الجوي باتريوت.
سباق مع الوقت
ومع تزايد الهجمات الروسية على المدن الأوكرانية، تكثف برلين جهودها لإبرام عقود شراء عاجلة، في مقدمتها صفقة محتملة لأنظمة باتريوت الأميركية.
وكتب الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي على منصة X بعد إعلان ترامب: «نقدّر استعدادكم لتوفير صواريخ باتريوت إضافية، والولايات المتحدة وألمانيا والنرويج تعمل بالفعل معًا في هذا الشأن».
وأردف زيلينسكي أنّ هناك شحنات أخرى قادمة لحماية أرواح الشعب الأوكراني وصد الهجمات الروسية، ما يعكس حجم الرهان الأوروبي على هذا المسار الجديد.
هكذا، وجدت أوروبا طريقًا بديلاً لإبقاء الدعم الأميركي حيويًا لأوكرانيا، من دون الدخول في مواجهة مباشرة مع بوتين، ومن دون إجبار ترامب على اتخاذ قرارات لا يرغب في تحمّل كلفتها السياسية داخليًا.
ومع ذلك، يظل الطريق أمام هذا الاتفاق محفوفًا بالتحديات، ليس أقلها توحيد المواقف الأوروبية وضمان سرعة تنفيذ عمليات الشراء والتسليم.