على وقع تباطؤ بعض «المشاريع العملاقة» وإعادة ترتيب الأولويات المالية، تكشف السعودية عن مشروع «بوابة الملك سلمان» في مكة المكرمة، بتصميم يستند إلى أبراج ذهبية متجاورة وقدرات استيعابية ضخمة للحجاج والمعتمرين.
ويقدم المشروع بوصفه ركيزة جديدة لقطاع السياحة الدينية ضمن رؤية 2030، ورسالة بأن الاستثمار يتجه حاليًا إلى القطاعات الأكثر مردودية وقابلية للتنفيذ، وفي مقدمتها الحج والعمرة وما يتفرّع عنهما من خدمات ضيافة ونقل ولوجستيات.
لماذا مكة الآن؟
تاريخيًا، كانت اختناقات السعة والتشغيل في موسمَي الحج والعمرة عائقًا مزمنًا أمام استيعاب أعداد أكبر من الزوار. «بوابة الملك سلمان» يسعى لمعالجة ذلك عبر حزمة عمرانية–تشغيلية متكاملة:
مساحات عبور واستقبال عالية الكثافة مع حلول تظليل وتوجيه حشود.
مجمعات سكنية وفندقية وتجارية وثقافية ملتصقة بمحاور الحركة الدينية.
طاقة استيعابية تُقدَّر بنحو 900 ألف مصلٍ في أماكن داخلية وخارجية، بما يخفّف الضغط عن المناطق الأشد ازدحامًا.
المنطق الاقتصادي بسيط: كل تحسينٍ في الكفاءة التشغيلية حول الحرم يترجم مباشرة إلى أيام إقامة إضافية، وإنفاق أعلى للفرد، وفرص عمل محلية في قطاعات الضيافة والنقل والتجزئة والصيانة.
من «المعجزة المعمارية» إلى الواقعية المالية
واجهت المملكة خلال الأعوام الأخيرة تحديات في عدد من المشاريع الرمزية: تأجيلات، تعديلات تصميم، وارتفاع تكاليف الإنشاء والتشغيل. هذا الواقع دفع إلى «إعادة معايرة الطموحات» باتجاه ما يحقق أثرًا سريعًا وملموسًا على النمو والتوظيف.
والفارق الجوهري بين مشروعٍ ديني–مديني في مكة ومشاريع صحراوية–ساحلية بعيدة، أن الأول يستند إلى طلبٍ مستقر وموسمي متنامٍ بفعل الحج والعمرة، مع بنية تحتية قائمة يمكن ترقيتها، بينما يتطلب الثاني خلق طلب جديد من الصفر وبناء منظومات سكن ونقل وترفيه مكلفة زمنيًا وماليًا.
المكاسب المتوقعة
1. عائد مباشر على السياحة الدينية: المملكة تستقبل عشرات الملايين من المعتمرين سنويًا، والحج وحده يقفز بمعدلات الإشغال والأسعار. زيادة السعة تعني إيرادات أعلى ورسومًا وخدمات أكثر.
2. تحفيز سلاسل القيمة المحلية: من مقاولات وبنية تحتية ذكية إلى الأمن وإدارة الحشود، ما يخلق وظائف ماهرة في البناء والتشغيل والصيانة.
3. قابلية التسليم ضمن أطر زمنية واقعية: قرب المشروع من شبكات الطرق والقطارات والمطارات يُقلّص مخاطر «الفجوات اللوجستية» المعروفة في المشاريع البعيدة.
دروس من تجارب سابقة
تكشف التجارب أن الرمزية المعمارية وحدها لا تكفي، وأن النجاح مرهون بثلاثة شروط:
حوكمة تنفيذية صارمة: ضبط العقود، تتبّع الجداول الزمنية، وآليات جزاءات تحمي من الانزلاقات.
أولوية التشغيل على الافتتاح الاحتفالي: اختبارات تحميل للحشود والبنى التقنية قبل قص الشريط.
صيانة واستدامة: معيار الجودة لا يتوقف عند الافتتاح؛ إدارة المرافق في بيئة حارة وكثيفة الاستخدام تتطلب ميزانيات تشغيل وصيانة كافية وأنظمة مراقبة آنية.
ما الذي يجب مراقبته؟
التكلفة النهائية مقابل الميزانية المعلنة: قدرة المشروع على الالتزام بسقوف الإنفاق دون «تضخم نطاق».
تكامل النقل العام: الربط الفعلي مع قطار الحرمين والحافلات الذكية وممرات المشاة المظللة؛ فالسعة من دون نقل فعّال تعني اختناقات.
التدرّج المرحلي: تسليم أجزاء قادرة على العمل المستقل لتوليد تدفقات نقدية مبكرة تموّل المراحل التالية.
التجربة الإنسانية: جودة الظلّ والتهوية، الوصول لذوي الإعاقة، إدارة الطوارئ الطبية، وتوزيع الخدمات الأساسية (مياه، دورات مياه، نقاط إسعاف).
واقع الرؤية: من «الجيغا» إلى «المنفعة»
تُظهر المعطيات أن الحكومة باتت تركّز على القطاعات ذات العائد الأسرع والأكثر يقينًا: الحج والعمرة، الدرعية، وبعض منتجعات البحر الأحمر التي تُسَلَّم تدريجيًا.
في المقابل، تتعرّض المشاريع الأعلى تعقيدًا أو الأبعد جغرافيًا لمراجعات في الجداول والأحجام. هذا التحوّل لا يعني التخلي عن الطموح، بل تحويله إلى قابلية تنفيذ تراعي دورة الأعمال وأسعار النفط والعجز المالي.
و«بوابة الملك سلمان» ليست مجرد «أعجوبة ذهبية» لواجهة مكة؛ إنها اختبار نضج لمقاربة جديدة: أن تُبنى المشاريع على طلبٍ حقيقي، وقدرة تشغيلية، وحوكمة دقيقة، لا على الوعود البصرية وحدها.
وإذا نجح المشروع في تخفيف الازدحام، تحسين رحلة الحاج والمعتمر، ورفع كفاءة الخدمات مع التزامٍ صارم بالميزانية والوقت، فسيكرّس انتقال السعودية من «زمن الإبهار» إلى زمن الجدوى—حيث تتقدم مكة بوصفها محركًا يقينيًا للسياحة الدينية، ورافعةً عملية لأهداف رؤية 2030.