نهر دجلة في العراق مُعرّض لخطر الاختفاء

by hayatnews
0 comment

على ضفاف نهر دجلة، حيث تشكّلت أولى ملامح الحضارة الإنسانية، يقف الشيخ نيدام كريدي الصباحي بقلق متزايد أمام مستقبل نهرٍ لم يكن يوماً مجرد مصدر للمياه، بل روح حياة كاملة.

ويؤمن الشيخ البالغ من العمر 68 عاماً، وهو أحد زعماء الطائفة المندائية، بأن الماء الجاري شرط أساسي للحياة والعبادة معاً. إلا أن هذا الإيمان يواجه اليوم تهديداً وجودياً مع تدهور صحة نهر دجلة واقترابه من الجفاف.

يعاني نهر دجلة، أحد شرياني الحياة التاريخيين في بلاد ما بين النهرين، من تلوث شديد وانخفاض غير مسبوق في منسوب مياهه.

ويحذّر خبراء وناشطون بيئيون من أن غياب إجراءات عاجلة سيؤدي إلى تغييرات جذرية في حياة المجتمعات القديمة التي عاشت على ضفافه لقرون، وفي مقدمتها الطائفة المندائية في جنوب العراق.

يقول الشيخ نيدام، المقيم في مدينة العمارة بمحافظة ميسان، إن الماء عنصر جوهري في عقيدتهم الدينية. فطقوس التطهير تُمارَس في جميع محطات الحياة، من الولادة والزواج وحتى الوفاة، ولا يمكن إجراؤها إلا في نهر جارٍ. ويضيف: “في ديننا، أهمية الماء كالهواء. بدون الماء، لا وجود للحياة”. إلا أن دجلة، الذي لم يخذله يوماً، بات مهدداً بالتوقف عن الجريان.

يمتد نهر دجلة من جنوب شرق تركيا مروراً بالموصل وبغداد، قبل أن يلتقي بنهر الفرات ليشكلا شط العرب المتجه إلى الخليج. وعلى ضفافه نشأت الزراعة الأولى، وابتُكرت الكتابة والعجلة، وتكوّنت أسس الحضارة البشرية.

واليوم، يعتمد ما يقرب من 18 مليون عراقي على مياهه للشرب والري والنقل والصناعة وتوليد الطاقة.

لكن صحة النهر تدهورت بشكل حاد خلال العقود الماضية. فبعد تدمير جزء كبير من البنية التحتية للمياه خلال حرب الخليج عام 1991، تدفقت مياه الصرف الصحي غير المعالجة إلى المجاري المائية. ولم تسمح سنوات العقوبات والصراعات المتتالية بإعادة تأهيل هذه البنية بشكل كامل.

وتشير البيانات إلى أن نحو 30% فقط من الأسر الحضرية في وسط وجنوب العراق مرتبطة بشبكات معالجة الصرف الصحي، بينما تنخفض النسبة في المناطق الريفية إلى أقل من 2%.

إلى جانب ذلك، يتعرض النهر لتلوث واسع النطاق بفعل النفايات الصناعية، ومخلفات قطاع النفط، والمبيدات والأسمدة الزراعية، فضلاً عن النفايات الطبية.

وقد صنّفت دراسة أُجريت عام 2022 جودة مياه دجلة في عدة مناطق من بغداد بأنها “سيئة” أو “سيئة للغاية”. وفي عام 2018، أُدخل أكثر من 118 ألف شخص إلى مستشفيات البصرة بعد شرب مياه ملوثة.

ولا يقتصر الخطر على التلوث وحده، إذ يشهد منسوب دجلة انخفاضاً حاداً. فخلال الثلاثين عاماً الماضية، أدت السدود التي بنتها تركيا في أعالي النهر إلى تقليص كمية المياه الواصلة إلى بغداد بنحو 33%. كما قامت إيران بتحويل مجاري أنهار تغذي دجلة.

وفي الداخل العراقي، يفاقم سوء إدارة الموارد المائية الأزمة، إذ يستهلك القطاع الزراعي وحده أكثر من 85% من المياه السطحية.

تُضاف إلى ذلك آثار التغير المناخي، حيث انخفض معدل هطول الأمطار في العراق بنسبة 30%، ويعاني البلد من أسوأ موجة جفاف منذ نحو قرن.

ويتوقع الخبراء أن يتجاوز الطلب على المياه العذبة العرض بحلول عام 2035. وفي صيف هذا العام، انخفض منسوب دجلة إلى مستويات سمحت بعبوره سيراً على الأقدام في بعض المناطق.

وفي محاولة لمعالجة الأزمة، وقّعت بغداد وأنقرة في نوفمبر اتفاقية لتحسين إدارة المياه والحد من التلوث، شملت إدخال تقنيات ري حديثة وتمويل مشاريع بنية تحتية عبر عائدات النفط. إلا أن الاتفاقية أثارت انتقادات واسعة بسبب غموض تفاصيلها وعدم إلزاميتها القانونية، وسط مخاوف من منح تركيا نفوذاً أكبر على الموارد المائية العراقية.

وسط هذه التحديات، يخشى الشيخ نيدام من أن يكون انحسار دجلة ضربة قاضية للطائفة المندائية، التي تقلص عدد أفرادها في العراق إلى أقل من 10 آلاف بعد موجات هجرة متتالية. ويقول بحسرة إن اختفاء النهر لن يعني فقط أزمة بيئية، بل نهاية نمط حياة وذاكرة روحية متجذرة في تاريخ العراق نفسه.

You may also like

Leave a Comment