في أقوى تحذير له حتى الآن، أصدر صندوق النقد الدولي تقريرًا شديد اللهجة ينتقد فيه النموذج الاقتصادي السائد في مصر، الذي تهيمن عليه المؤسسة العسكرية، محذرًا من أن هذه الهيمنة تعرقل نمو القطاع الخاص، وتثبط المستثمرين، وتُبقي البلاد في حلقة مفرغة من الأداء الاقتصادي المتعثر والديون المتراكمة.
جاء التقرير في إطار المراجعة الرابعة لبرنامج القرض الموقّع بين مصر وصندوق النقد، والذي تبلغ قيمته 8 مليارات دولار، واشتمل على 202 صفحة من التقييمات المفصلة التي تُسلّط الضوء على المشهد الاقتصادي “غير المتكافئ” الذي تسيطر عليه الشركات المملوكة للدولة، بما في ذلك الكيانات التابعة للجيش.
تحذير واضح من “الاقتصاد ذو الوجه العسكري”
بحسب التقرير، فإن الشركات التابعة للمؤسسة العسكرية المصرية تستفيد من “معاملة تفضيلية غير عادلة”، تشمل إعفاءات ضريبية، وتسعيرًا تفضيليًا للأراضي، وسهولة في الحصول على التمويل والعقود الحكومية. وقد أدى هذا الواقع إلى تهميش القطاع الخاص، وتشويه المنافسة في السوق.
وأضاف صندوق النقد أن هذه المزايا تُرسّخ نموذجًا اقتصاديًا مزدوجًا، أحدهما خاضع لقواعد السوق، والآخر محمي، يفتقر إلى الشفافية والمساءلة، الأمر الذي يؤدي إلى طرد الاستثمارات الخاصة وتعطيل آليات السوق.
إصلاحات “متأخرة وبطيئة”
رغم تبني الحكومة المصرية خطوات مثل تعويم الجنيه، وتقليص الدعم، وإطلاق سياسة لملكية الدولة، وصف الصندوق التقدم الاقتصادي بأنه “بطيء وغير متوازن”، مشيرًا إلى أن الإصلاحات الهيكلية الضرورية ما زالت مؤجلة أو غير مكتملة.
ووفقًا للتقرير، فإن الدين الخارجي لمصر مرشح للارتفاع من 156.7 مليار دولار إلى 180.6 مليار دولار خلال العام المالي الحالي، وهو ما يُفاقم الضغوط الاقتصادية، بينما لا يزال المواطن المصري يتحمل تبعات الغلاء والتضخم وانكماش شبكة الأمان الاجتماعي.
الجيش والاقتصاد: قصة قديمة بطبعة جديدة
ترجع جذور هيمنة الجيش على الاقتصاد المصري إلى خمسينيات القرن الماضي، لكنها شهدت تسارعًا كبيرًا بعد انتفاضة 2011، وتوسعت أكثر بعد تولي الرئيس عبد الفتاح السيسي السلطة في 2013. حيث تحولت المؤسسة العسكرية إلى لاعب اقتصادي رئيسي في قطاعات البناء والتطوير الزراعي والصناعات المدنية، تحت مبرر تنفيذ “مشروعات وطنية كبرى”.
لكن صندوق النقد يرى أن هذا التوسع يأتي على حساب الشفافية والكفاءة، إذ تعمل الشركات العسكرية بعيدًا عن الرقابة العامة، ما يُضعف المنافسة ويُقوض فرص الاستثمار.
يقول أحد المقاولين في قطاع البناء بالإسكندرية، لموقع ميدل إيست آي، إن وجود الجيش “سحق فرص المقاولين الصغار”، موضحًا أنه كان يدير ثلاثة مشاريع سنويًا، “أما اليوم، فالحصول على مشروع واحد في العام يُعد إنجازًا”.
المصداقية والخصخصة على المحك
كشف صندوق النقد عن تأجيل المراجعتين الخامسة والسادسة من البرنامج بسبب بطء الحكومة المصرية في الوفاء بتعهداتها، وعلى رأسها بيع حصص من 11 شركة حكومية، من بينها أربع مملوكة للجيش، أبرزها شركتا “الوطنية للبترول” و”صافي” للمياه المعدنية.
ورغم إبداء مستثمرين خليجيين اهتمامهم، فإن عمليات البيع لم تُستكمل، ما أثار تساؤلات حول جدية الحكومة في الإصلاح.
كما أن عدم وضع جدول زمني واضح لطرح شركات مثل “تشيل آوت” (محطات الوقود) و”سيلو فودز” (صناعات غذائية) يضعف ثقة المستثمرين ويعكس ارتباكًا في التنفيذ.
الطريق إلى الشريحة القادمة
رغم إشادة الصندوق بتحول مصر إلى سعر صرف مرن في مارس 2024، فإنه أوضح أن “المصداقية المالية والنقدية” ما زالت مفقودة، وأن استمرار الإصلاحات شرط أساسي للحصول على الشريحة التالية من القرض، البالغة 2.5 مليار دولار.
ويختم التقرير بالتحذير من أن استمرار الهيمنة العسكرية على الاقتصاد المصري سيُبقي القطاع الخاص في الظل، ويُعيق النمو المستدام. كما يشدد على أن “النزاهة والشفافية” يجب أن تحلّ محل “الامتيازات المحمية”، وإلا فإن مصر ستبقى رهينة لنموذج اقتصادي لا يخدم إلا نخبة محصّنة من المساءلة.