من الواضح أن الحرب في قطاع غزة لم تعد مقتصرة على إسرائيل وحماس، ففي الخامس والعشرين من ديسمبر/كانون الأول، قتلت غارة جوية إسرائيلية مسؤولا كبيرا في الحرس الثوري الإيراني يدعى السيد راضي موسوي، في حي السيدة زينب الذي يسيطر عليه الشيعة في دمشق.
وفي الثاني من كانون الثاني (يناير)، اغتيل صالح العاروري، نائب رئيس حركة حماس ومؤسس جناحها العسكري، في هجوم بطائرة إسرائيلية بدون طيار جنوب بيروت، معقل جماعة حزب الله الشيعية المسلحة.
ويتبادل حزب الله وإسرائيل إطلاق النار بشكل شبه يومي منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، كما اغتالت إسرائيل عدداً من كبار الشخصيات في حزب الله.
في البحر الأحمر، فقد هاجم الحوثيون، وهم من أتباع المذهب الشيعي ايضًا، السفن التجارية المارة بلا هوادة، مما استفز الولايات المتحدة والمملكة المتحدة لضرب أهداف الحوثيين في اليمن.
وشنت جماعة شيعية جديدة وغامضة تدعى المقاومة الإسلامية في العراق غارة جوية بطائرة بدون طيار أدت إلى مقتل ثلاثة جنود أمريكيين في موقع عسكري بالأردن في أواخر يناير/كانون الثاني، وردت الولايات المتحدة بسلسلة من الضربات على عشرات الأهداف في العراق وسوريا، وهناك خطر حقيقي من أن يؤدي هذا التراجع إلى صراع عسكري أمريكي مباشر مع إيران.
تظهر نقاط التوتر هذه المدى المتسع لما يسمى بمحور المقاومة، وهي المجموعة الفضفاضة من الميليشيات المدعومة من إيران والتي تهاجم المصالح الإسرائيلية والأمريكية في جميع أنحاء الشرق الأوسط، لكن الأمر الأقل بروزا هو إلى أي مدى تسبب الصراع الأوسع الجاري حاليًا إلى طمس الانقسامات الطائفية التي غالبًا ما شكلت المنطقة.
كانت الحروب الأهلية الشرسة في العراق وسوريا واليمن تشتمل على العنصر الطائفي الشيعي؛ حيث استحضرت إيران والسعودية ولسنوات الولاءات الطائفية في منافستهما الطويلة الأمد من اجل تحقيق الهيمنة الإقليمية، إلا أن الحرب في غزة مثلت تحديًا لهذا الانقسام: فالأغلبية الساحقة من الفلسطينيين هم من المسلمين السُنّة، وحركة حماس نشأت من رحم جماعة الإخوان المسلمين، وهي الحركة الإسلامية السُنّية الأكثر أهمية والتي تمتد جذورها إلى مصر.
لكن كيف وجدت حماس بعضاً من أقوى حلفائها في الجماعات والأنظمة التي يقودها الشيعة في إيران والعراق ولبنان وسوريا واليمن؟
يكمن تفسير ذلك في المكانة الخاصة التي احتلها تحرير فلسطين بين السنة والشيعة العاديين منذ فترة طويلة، وكيف حولت الحرب هذه المشاعر إلى قوة موحدة قوية بين الطائفتين.
لقد كانت محنة الفلسطينيين بمثابة نقطة التقاء مشتركة في مختلف أنحاء العالم الإسلامي ولفترة طويلة بالرغم من وجود التوترات الطائفية في مواقع سياسية أخرى.
تسبب مواصلة القادة العرب السُنة لصفقات “التطبيع” مع إسرائيل وتجاهلهم القضية الفلسطينية بشكل متزايد، على مدى السنوات القليلة الماضية، في ان تصبح الحكومة الإيرانية وحلفاؤها الشيعة، الداعمين الأساسيين للمقاومة الفلسطينية المسلحة.
كما جعلت التحولات الإقليمية، بما في ذلك التقارب بين إيران والسعودية في مارس/آذار 2023، ومحادثات السلام الجارية بين الحوثيين والسعودية، وبين اليمنيين انفسهم، والديناميات المتغيرة في العراق ولبنان، الانقسام الطائفي في المنطقة أقل بروزاً بكثير.
والآن، بعد ما يقرب من أربعة أشهر من الحرب الكارثية، أدى الهجوم الإسرائيلي على غزة إلى إيقاظ جبهة إسلامية تضم الجماهير العربية السُنّية، التي تعارض بأغلبية ساحقة التطبيع العربي، والجماعات الشيعية المسلحة التي تحتل مركز القلب في محور المقاومة الإيرانية، ويشكل هذا التطور تحديًا استراتيجيًا بالنسبة للولايات المتحدة وشركائها، يتجاوز بكثير مواجهة الميليشيات العراقية والحوثيين بضربات محسوبة بدقة.
كما تهدد الحرب في غزة بالمزيد من تقويض النفوذ الأمريكي من خلال الجمع بين منطقة منقسمة على نفسها منذ فترة طويلة، وهذا الأمر يمكن أن يجعل العديد من المهام العسكرية الأمريكية غير قابلة للاستمرار على المدى الطويل.
كما تثير هذه الوحدة الجديدة أيضًا عقبات كبيرة أمام أي جهود تقودها الولايات المتحدة لفرض اتفاق سلام من أعلى إلى أسفل يستبعد الإسلاميين الفلسطينيين.
على الرغم من أن الانقسامات الطائفية قد لعبت ومنذ فترة طويلة دورا بارزا في صراعات الشرق الأوسط، إلا أن دوافعها كثيرا ما تتعرض لسوء الفهم.
من الناحية العقائدية، يتعلق الانقسام الشيعي السني بخلافة النبي محمد، حيث يؤكد السنة أن خلفائه، يجب اختيارهم من بين مجتمع يضم أقرب أتباعه الأوائل، ويقول الشيعة ان خلفائه، الذين يسمونهم (الأئمة)، يجب أن ينحدروا مباشرة من النبي محمد.
تطور المذهب السني والشيعي مع الوقت إلى فرعين رئيسيين للإسلام، مع تمسك أغلبية المسلمين في مختلف أنحاء العالم بالفرع السني، فيما تركز المذهب الشيعي في إيران في أعقاب تحول الإيرانيين من خلال السلالة الصفوية إلى المذهب الشيعي الاثني عشري في القرن السادس عشر، كما تركز في العراق، حيث شكل الشيعة الأغلبية؛ كما كانت هناك مجتمعات شيعية كبيرة منتشرة في لبنان واليمن ودول الخليج وجنوب آسيا.
وبالرغم من كل هذه التغيرات على مدى القرون، لم يتأثر الفلسطينيون في الغالب بهذا الانقسام، فباعتبارهم رعايا للإمبراطورية العثمانية السنية وكسنة ومسيحيين يتحدثون العربية، لم يتعرضوا إلا قليلاً للمذهب الشيعي أو الانقسام الشيعي السني.
بعد الحرب العالمية الأولى، أصبحت الهويات الدينية أكثر أهمية من الناحية السياسية ومتشابكة مع الدولة القومية، حيث سعت القوى الاستعمارية الغربية إلى تنظيم الأراضي العثمانية السابقة على أسس عرقية وطائفية، فحول الفرنسيون الهوية الطائفية في لبنان وسوريا، إلى أساس السياسة والقانون (في لبنان، كانت الدولة يحكمها إلى حد كبير المسيحيون والسنة، مع منح الشيعة القليل من السلطة).
وأنشأت الحكومة البريطانية في ولاياتها في العراق، وفلسطين، وشرق الأردن، أيضاً إدارات يقودها السنة حتى وان كان هناك أعداد كبيرة من الشيعة.
وواصل البريطانيون في العراق السياسات العثمانية وقاموا بتهميش المجتمعات الشيعية ورجال الدين الشيعة إلى حد كبير، بعد ان اعتبروهم مستقلين للغاية ومستائين من الهيمنة البريطانية.
وادى دعم المملكة المتحدة للهجرة اليهودية إلى فلسطين وسياستها في حكم العرب واليهود بشكل مختلف إلى تعزيز الفئات العرقية الدينية في المنطقة، بما في ذلك بين الفلسطينيين أنفسهم.
ويمكن القول ان السياسات الاستعمارية وصعود الدول القومية الحديثة غذت الانقسامات العرقية والطائفية كما غذتها المناقشات العقائدية أو الدينية الأعمق.
لكن سياسات بناء الأمم يمكن أن تدفع في اتجاهات متعددة، فقد أدت عمليات الطرد الإسرائيلية المتكررة للفلسطينيين بعد عام 1948، إلى ظهور علاقات وتحالفات جديدة، فقد تزامن تدفق اللاجئين الفلسطينيين إلى لبنان، في عامي 1948 و1967 مع الصحوة السياسية للمجتمع الشيعي المهمش في البلاد، والذي كان يسعى إلى تحرير نفسه، كما اختلط الفلسطينيون أيضًا على مدى العقود التالية، ببعض النشطاء الإيرانيين الذين قادوا لاحقًا الثورة الإيرانية عام 1979، التي أطاحت بالشاه محمد رضا بهلوي، الحليف الوثيق لإسرائيل والولايات المتحدة إلى جانب بنائهم علاقات مع الشيعة اللبنانيين.
وقد رحب الزعيم الثوري آية الله الخميني على الفور تقريبًا بعد عودته المظفرة إلى إيران في فبراير/شباط 1979، بمنظمة التحرير الفلسطينية في مدينة قم المقدسة، حيث أشاد زعيم منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات بالثورة باعتبارها “نصرًا كبيرًا للمسلمين ويوم للنصر لفلسطين”.
وبعد يومين من ذلك التصريح، سلم الإيرانيون السفارة الإسرائيلية في طهران إلى منظمة التحرير الفلسطينية، كما زارها وفد من جماعة الإخوان المسلمين، مما سلط الضوء على نظرة الجماهير السنية والحركات السياسية السنية إلى الثورة الإيرانية في أيامها الأولى.
ومع ذلك، فإن معظم القادة في الشرق الأوسط العربي اعتبروا جمهورية إيران الإسلامية ودعمها للحركات الثورية في جميع أنحاء المنطقة تهديدا كبيرا، وكانت هذه الدول التي يقودها السُنة تخشى أن تؤدي الثورة الإيرانية إلى تمكين المجتمعات الشيعية والحركات الإسلامية على أراضيها، وتحدي موقعها المركزي في العالم العربي والإسلامي، وتعقيد علاقاتها مع الولايات المتحدة.
عندما غزا النظام البعثي العراقي إيران عام 1980، وقفت منظمة التحرير الفلسطينية وغيرها من الجماعات الفلسطينية إلى جانب بغداد، وخلصت تلك المجموعات إلى أن العلاقات مع العراق ودول الخليج لها الأسبقية على طهران.
تقسيم، وليس غزو
أدت التدخلات الأمريكية المضللة بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر، إلى تفاقم الصراع الطائفي في جميع أنحاء الشرق الأوسط بشكل كبير، مما ساعد على تشجيع العديد من الجماعات المسلحة التي تتعامل معها إدارة بايدن اليوم.
أدى الغزو الذي قادته الولايات المتحدة للعراق إلى وصول الأحزاب الإسلامية الشيعية إلى السلطة، والتي كان معظمها في المنفى في إيران وسوريا منذ الثورة الإيرانية، كما انه أعطى وقودًا جديدًا للمتطرفين السنة، مثل تنظيم القاعدة في العراق، مما أدى إلى اندلاع الحرب الأهلية العراقية الدموية التي أدت في النهاية إلى ظهور تنظيم الدولة، المعروف أيضًا باسم داعش، والميليشيات الشيعية المدعومة من إيران والتي تستهدف اليوم القوات الأمريكية في العراق والأردن وسوريا.
توقع كثيرون في الغرب، بعد عقدين من العنف بين السُنّة والشيعة والجهود الوحشية التي يبذلها تنظيم داعش لإقامة الخلافة، أن تحظى حركة إسلامية سنية مثل حماس بدعم شعبي محدود في الشرق الأوسط الكبير.
كان مسار التفكير على هذا النحو آيضًا في دول مثل مصر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، الذين اعتقدوا أنهم قد نجحوا في تجنب جماعة الإخوان المسلمين كمسألة سياسية، وبدا أن جيلًا جديدًا من قادة دول الخليج العربية لا يهتمون كثيرًا بالقضية الفلسطينية بل بتكنولوجيا المراقبة المتقدمة والعلاقات التجارية التي كان على إسرائيل أن تقدمها.
في دول مثل إيران والعراق، كان السكان في غالبيتهم من الشيعة وكان من غير المرجح ايضاً أن يتم تعبئتهم بسبب الصراع الإسرائيلي الفلسطيني.
وساعدت هذه الافتراضات المضللة في دفع الجهود الأمريكية لدفع دول الخليج والدول العربية الأخرى إلى تطبيع العلاقات مع إسرائيل، حتى في غياب أي خطة قابلة للتطبيق لمعالجة مظالم ملايين الفلسطينيين الذين يعيشون تحت السيطرة والاحتلال الإسرائيلي إلى أجل غير مسمى، وكلاجئين في المنطقة.
كان دعم الفلسطينيين أمرًا متفق عليه إلى حد كبير بين المسلمين السنة والشيعة في جميع أنحاء العالم منذ ما يقرب من قرن من الزمان.
واقترح المشاركون السنة في مؤتمر في القدس لتسليط الضوء على التضامن الإسلامي ضد الصهيونية عام 1931، أن يؤم رجل دين شيعي عراقي مشهور صلاة الجمعة في المسجد الأقصى في القدس.
وبعد خمسة وسبعين عاماً، عندما تمكن حزب الله من النجاة من حربه مع إسرائيل في عام 2006 (وفي عام 2000 بالفعل، عندما لعب دوراً فعالاً في دفع الجيش الإسرائيلي إلى الخروج من جنوب لبنان)، حظيت الجماعة بالإشادة من قِبَل السُنّة والشيعة على حد سواء، كما اجتذبت حماس مستويات مماثلة من الدعم عبر الطوائف منذ أن بدأت الحرب في غزة.
وقد جلبت هذه الديناميكية الشعبية ضغوطاً متزايدة على الحكام العرب المستبدين ومنحت نفوذاً جديداً في العالم السني للجماعات الشيعية التي دعمت حماس بنشاط.
وقد راقب العديد من العرب السُنّة في رهبة التحركات المسلحة المتحالفة مع إيران من بيروت وبغداد إلى البحر الأحمر وهي القنوات الأكثر وضوحاً لمقاومة الحرب الإسرائيلية في غزة.. هذه هي المجموعات التي تشكل محور المقاومة، والذي أصبح الآن تحت قيادة إيران قوة منسقة في جميع أنحاء المنطقة الكبرى.