في الذكرى الخامسة لانفجار مرفأ بيروت، تستعيد العاصمة اللبنانية بعضًا من نشاطها الاقتصادي، بفضل جهود السكان والمجتمع المدني والشتات اللبناني، في غياب أي محاسبة أو دعم جدي من الدولة. ورغم إعادة فتح العديد من الشركات والمرافق، يبقى جرح الانفجار نازفًا في ذاكرة الضحايا والمجتمع، في ظل تعثر التحقيقات وعدم معاقبة أي مسؤول رفيع.
الانفجار، الذي هز بيروت في 4 أغسطس 2020 نتيجة تخزين غير آمن لنحو 3000 طن من نترات الأمونيوم، أسفر عن مقتل أكثر من 220 شخصًا وإصابة آلاف آخرين، وأدى إلى خسائر قدرت بـ8.1 مليار دولار، وفق البنك الدولي.
لا مساءلة… ولا تعويض
ورغم مرور خمس سنوات، لم يُحاسب أي مسؤول سياسي أو أمني بشكل فعلي، ويؤكد ناصر السعيدي، وزير الاقتصاد الأسبق، أن الدولة “فشلت في تقديم تقرير شفاف عن أسباب الانفجار”، مشيرًا إلى أن غياب المساءلة ساهم في ترسيخ الشعور العام بأن لبنان بلد الإفلات من العقاب.
توقف التحقيق القضائي بسبب التدخلات السياسية وعزل المحققين، تاركًا أهالي الضحايا في حالة ترقّب وعدالة معلّقة. كما فشلت الدولة في تقديم التعويضات الموعودة للمتضررين، ما اضطر المواطنين لتحمل كلفة إعادة البناء بأنفسهم.
يقول مايكل يونج، أحد سكان بيروت المتضررين: “زارني الجيش مرتين لتقييم الأضرار، وقيل لي إنني سأتلقى تعويضًا، لكنني لم أحصل على أي شيء، واضطررت لدفع آلاف الدولارات من مدخراتي لإصلاح شقتي”.
اقتصاد أعاد ترميم نفسه
بحسب تقارير اقتصادية، تم تمويل الجزء الأكبر من إعادة الإعمار من قبل المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية والمغتربين اللبنانيين. واستؤنف العمل في قطاعات عديدة مثل الضيافة، وتجارة التجزئة، والعقارات، دون دعم يُذكر من الحكومة.
ويوضح سامر تلحوق، كبير الاقتصاديين في شركة S&P Global، أن “الأنشطة الاقتصادية في المناطق المتضررة استعادت جزءًا من حيويتها، لكن الكثير من الشركات أغلقت نهائيًا، خصوصًا في الأحياء الفقيرة قرب الميناء”.
تؤكد أرقام البنك الدولي أن الاقتصاد اللبناني انكمش بنسبة 24.6% عام 2020 نتيجة الانفجار، وسط أزمة مالية حادة كانت قد بدأت قبل ذلك بأشهر، عندما تخلّفت الحكومة عن سداد سندات اليوروبوند بقيمة 31 مليار دولار.
ميناء بيروت… تعافٍ جزئي
لا يزال مرفأ بيروت، مركز الانفجار، يعمل بطاقته الجزئية. فبينما لم يُعاد بناء الجزء المدمر بشدة، فإن قسم الحاويات عاد للعمل، مسجلًا 61% من واردات لبنان في الأشهر الخمسة الأولى من عام 2025، وفق البنك الدولي.
لكن التحديات مستمرة. فقد أثّرت هجمات الحوثيين في البحر الأحمر على حركة الشحن، ما قلّل من عدد السفن المتجهة شرق المتوسط، بحسب تحليل نيلز راسموسن، من شركة BIMCO. وقال: “إعادة التوجيه عبر رأس الرجاء الصالح قلل من حركة السفن العابرة لبيروت”.
المساعدات الدولية… وغياب الدولة
بعد الانفجار، وعد المجتمع الدولي بدعم إعادة الإعمار، حيث تعهدت فرنسا بتقديم 120 مليون دولار، والولايات المتحدة 100 مليون، بينما ساهمت ألمانيا والكويت وكندا والسويد بمبالغ تراوحت بين 14 و50 مليون دولار.
لكن هذه الأموال لم تمر عبر الدولة، بل وصلت عبر منظمات غير حكومية، في ظل انعدام ثقة دولي بالإدارة اللبنانية. ويقول نسيب غبريل، كبير الاقتصاديين في بنك بيبلوس: “المغتربون اللبنانيون لعبوا الدور الأهم في سد الفجوة، بينما كانت الدولة غائبة تمامًا”.
ويضيف: “حتى اليوم، لا يزال الكثير من المتضررين يعتمدون على الدعم الخارجي لتغطية حاجاتهم الأساسية، في ظل تدهور القطاع المصرفي وفرض قيود على سحب الأموال من البنوك”.
ختام: مدينة تنهض… بلا دولة
رغم الدمار والخذلان، تنهض بيروت تدريجيًا بجهود أهلها ومن تبقى من مبادرات مستقلة، لكن الغياب التام للمساءلة والتعويضات يترك جرحًا مفتوحًا في الضمير الوطني.
وبينما تستعيد الشركات أنفاسها، وتعيد بعض الأحياء نبضها، تبقى العدالة غائبة، ويتحوّل انفجار 4 آب من كارثة إلى رمز دائم لفشل الدولة، ومثال على قدرة المجتمعات على النهوض رغم الإهمال، لا بفضله.